تدخل تونس سنة 2023 مثقلة بالأزمة السياسية التي ألقت بظلالها على الوضع الاقتصادي المتردي بعد عقد كامل من انهيار حكم الطبقة الأوليغارشية والتي استبدلها الشعب بسلطة ديمقراطية تصارعت فيما بينها كالضباع الجائعة وجعلت من تونس حلبة صراع سياسي غير شريف يخدم الأجندات الأجنبية على حساب مصلحة البلاد لتنقلب كل المؤشرات الاقتصادية الى اللون الأحمر وينقلب حال التوانسة من سيئ الى أسوأ سنة بعد سنة وصولا الى عام 2022 التي كانت سنة الندرة: ندرة السلع التموينية وندرة الحلول السياسية وغياب الأفق.

كانت انتخابات ديسمبر الماضي والتي عرفت نسبة اقبال ضعيفة لم تتجاوز العشرة بالمئة دليلا واضحا لا يترك مجالا للشك على طلاق الشعب مع السياسة والساسة، ومؤشرا قويا على سقوط المشروع التونسي لبناء دولة ديمقراطية في الماء، ومعه كل النجاحات التي حققتها ثورة الياسمين والتي أبهرت العالم بأسره، لقد كان العزوف عن الممارسة الديمقراطية وعن صناديق الاقتراع رد فعل منطقي خلفته حالة الإحباط العام التي يعيشها التونسيون بعد أن تدنى مستوى الخطاب السياسي للنخبة، وانهارت قدرتهم الشرائية أمام حالة الغلاء والندرة ليجد قيس سعيد نفسه أمام تراجع في الشعبية وارتفاع في الأصوات المعارضة من الداخل والخارج مطالة إياه بالتنحي والاقرار بالفشل في إدارة أمور البلاد وادخالها في نفق مظلم لا يعرف له نهاية.

لم تفوت الولايات المتحدة الأمريكية الفرصة للتعقيب على نتائج الانتخابات على الرغم من التوتر الذي كان قد ساد علاقات البلدين في شهر تموز من العام الماضي حيث استدعت وزارة الخارجية التونسية القائمة بالأعمال الأمريكي ناتاشا فرانشيسكي، للاعتراض على تدخل واشنطن في الشؤون الداخلية للبلاد وهددت بتعليق أعمال السفير الأمريكي الجديد، وجاء التعقيب هذه المرة من خلال الناطق باسم الخارجية الأمريكي، نيد برايس، الذي وصف الإقبال المنخفض للناخبين في الانتخابات التونسية بالأمر الذي يعزز الحاجة إلى توسيع المشاركة السياسية خلال الأشهر المقبلة، وهو إقرار امريكي بفشل عملية علاج الانسداد السياسي الذي سببه حل البرلمان و دليل بأن الرصيد الشعبي الذي مكن قيس سعيد من الصمود أمام من وصفوا خطوته بالانقلاب قد نفذ وهو ما يعني أيضا أن أي تحرك للشارع في المرحلة القادمة سيقابل بتأييد من الإدارة الامريكية تحت ما يسمى بدعم الديمقراطية في العالم.

لا شك في وطنية قيس سعيد كرجل دستوري تاريخه نظيف وطريقة وصوله الى السلطة ديمقراطية ولا غبار عليها، ولكن الرجل استلم تركة مليئة بتراكمات عقود من الفشل من دون برنامج اقتصادي ومن دون رؤية استشرافية واضحة تضع الشق الاقتصادي كأولوية لنجاح المسار الديمقراطي في تونس، ثم جاءت جائحة كورونا لتضرب عمق الاقتصاد التونسي المعتمد على السياحة ولتصل تونس الى مرحلة حرجة أصبحت فيها الحاجة الى القروض أمرا لا مفر منه لتجنب انهيار الدولة ولكنها وفي نفس الوقت أكلت وتأكل من رصيد تونس السيادي وتتحكم في سياسات الحكومة في الوقت الذي يزداد الخناق على المواطن التونسي بفعل الزيادات الضريبة وارتفاع أسعار الوقود وغلاء وندرة السلع وفشل الموسم السياحي وغياب المشاريع الاقتصادية التي قد تقلص من نسب البطالة ليجد قيس سعيد نفسه في صراع مع ثالوث خطير : الفقر، الفشل الإداري، النهضة.

ونحن ندخل سنة 2023 مع توقعات صادمة من البنك الدولي الذي ينذر بسنة أشد ضراوة من سابقاتها مرهونة بتحديات عالمية زادت من حدتها الحرب في أوكرانيا، يتهيأ المشهد التونسي الى المزيد من الاضطرابات بدأت بإضراب قطاع النقل ومع قانون مالية وصف بقانون جباية حيث سيرفع الدعم عن المحروقات بنسبة 26 بالمئة، وتفرض ضريبة جديدة على أصحاب المهن الحرة ليتأكد من خلاله ان الحكومة العاجزة عن تصريف الأزمة الاقتصادية قد لجأت الى جيوب المواطنين لتحملهم المزيد من الأعباء من دون أن تضع في الحسبان بأن الوضع الاجتماعي لا يحتمل المزيد من الضغط وأن كل العوامل مهيأة لتحرك الشارع وهو ما يعني أن الحكومة اختارت المعالجة الأمنية لمشاكل البلاد الاقتصادية وأن العصى ستكون موجهة لمن عصى سياسة الأمر الواقع وبهذا ستقضي حكومة بودن على آخر ما تبقى من رصيد قيس الشعبي وستترك قيس في معركة مصيرها محتوم بالرحيل أو الإعلان عن فترة انتقالية يتم فيها التحضير لانتخابات مبكرة وفي كلتا الحالتين فان سنة 2023 ستشهد نهاية رجل اسمه قيس سعيد لأنها وبكل تأكيد ستكون أصعب سنة على التونسيين بوزرها الاقتصادي الثقيل وستتحكم في المشهد القادم الذي ستفرزه الانتخابات الرئاسية القادمة .