لا اعتراض على قدر الله طبعا... لم يكن ينقص سوريا كارثة جديدة لتزيد من خرابها في بلد أصبح حلم شعبه الوحيد العيش تحت سقف لا يهدمه القصف، لتأتي فاجعة الزلزال وتفاقم الأوضاع الإنسانية على السوريين وتلقي بظلالها السوداء على معيشتهم المتأزمة، محدثة بذلك خسائر فادحة قدرها تقرير للبنك الدولي بنحو 5.1 مليارات دولار أميركي، فيما رجحت "مجموعة عمل اقتصاد سوريا" أن الشمال السوري وحده يحتاج الحرب السورية منذ أكثر من عشر سنوات، والتي دفعت هي والزلزال كثيراً من الأبنية لتُسَوّى بالأرض تماماً.

هذه الإحصائيات والمبالغ الضخمة التي رجحت أن تكون كلفة إعادة إعمار ما هدمه الزلزال، أعادت فتح ملف إعمار سوريا من جديد والذي لطالما تم تداوله هنا وهناك، لكن دون نتيجة فعلية تذكر، ليبقى السؤال مطروحا من سعيد إعمار سوريا وينتشلها من هذا الخراب المتراكم؟

الإجابة عن هذا السؤال تفتح المجال أمام سؤال أخر أكثر أهمية، وهو فيما إذا كان النظام السوري في وضعه المترهل مؤهلا لإعادة بناء المنازل التي تهاوت بسبب الزلزال مثلما كان الحال في تركيا، حيث تعهد أردوغان بإيواء متضرري الزلزال ودفع الإيجار لمدة سنة لحين بناء منازل لائقة وتكون تكاليفها على عاتق الدولة، لكن الحال مختلف في سوريا، فالنظام السوري لا يأخذ في عين الاعتبار حجم الخسارة التي ألمّت بالسوريين، ليصدر بذلك مرسوم تشريعي جديد يعفي من خلاله متضررو الزلزال من الضرائب ويتيح لهم إمكانية الحصول على قروض بلا فائدة، على أن يتم تسديد الديون على مدى عشر سنوات وهي المهمة الشبه مستحيلة، لأن معظم المتضررين هم من ذوي الدخل المحدود، فكيف سيكون بمقدورهم دفع هذه القروض التي تبلغ أعلى من قيمة رواتبهم أضعافا مضاعفة. وهو ما يعني أن النظام لن يتحمل مسؤولية آلاف المشردين الذين انهارت بيوتهم وخسروا مصادر رزقهم في تنصل واضح من إعادة الإعمار.

وإذا كان نظام الأسد قد نأى بنفسه عن مسؤولية الإعمار تحت طائلة العجز الذي يعيش فيه فهل سيكون للدول العربية دور في إعادة بناء الدمار؟ خاصة بعد التقارب العربي من سوريا بعد الزلزال، فقد سارعت دول عربية عدة إلى إرسال المساعدات الإنسانية إلى مختلف المناطق المتضررة في سوريا، وتحديداً العراق والجزائر والإمارات التي خصصت مساعدات ضخمةً لمناطق النظام منذ الأيام الأولى، ثم جاءت زيارة وزير الخارجية المصري إلى دمشق لتفتح الحديث مجدداً عن "عودة سوريا إلى الحضن العربي وشغل منصبها مجدداً في جامعة الدول العربية"، ما يشي بانفتاح عربي على النظام في دمشق، بعد أعوام من اتخاذ الإمارات والبحرين هذه الخطوة، فقد حقق الزلزال ما لم تحققه الجهود الدبلوماسية والسياسية المبذولة من سنوات، ونجح في كتم الخلافات البينية وطي صفحات الخصومة بين الدول، ومع هذا التقارب أصبح إعمار سوريا يسيل لعاب العديد من الدول العربية وحتى الغربية كالصين وروسيا، لتخرج بعدها سوريا من عنق الزجاجة لتجد أمامها خيارات واسعة في إعادة الإعمار.

ومع هذا الانفتاح العربي على سوريا، يتم ترشيح الإمارات العربية المتحدة والتي تعد اللاعب الرئيسي في منطقة الشرق الأوسط والأقرب إلى نظام الأسد والتي تمتلك الخبرة والإمكانيات لإعادة إعمار الأراضي السورية، لكن الإمارات تواجه ضغوط عالية من الولايات المتحدة الأمريكية بسبب النفود الروسي هناك ولا أعتقد أنها ستخاطر بالوقوع في جدالات أخرى مع أمريكا، على الرغم من أنها أظهرت مقاومة عالية لتلك الضغوطات خاصة وأن الدول الأخرى لا تملك الفرصة لتقديم مساعدة كبيرة لدمشق.

في الجهة المقابلة نجد أن مصر لها هي الاخرى فرصة في توسيع نشاطها الاستثماري في إعادة إعمار سوريا كما فعلت سابقا في غزة لكن هذا الاحتمال سرعان ما تضاءل طرحه نظرا للظروف الصعبة التي يمر بها الاقتصاد المصري خلال الفترة الأخيرة.

قد تختلف نوايا الدول العربية من إعادة إعمار سوريا خاصة أنها تطالب ببقاء سوريا أقرب إلى الجانب العربي وتحافظ على انتمائها ما يعني ابتعادها نسبيا عن إيران وهو الخيار الذي يبقى رهن المستجدات ولا يمكن الجزم به، خاصة وان طهران لها ثقل في منظومة الحكم السورية، ومن المنتظر أن يكتسب هذا المسار مزيداً من الزخم خلال المرحلة المقبلة.

ومع تضاءل فرص الدول العربية في إعادة إعمار سوريا تمتلك هذه الأخيرة خيارات دولية كالصين وروسيا والتي تزخر بإمكانيات ضخمة لمساعدة سوريا على تعمير المناطق المتضررة، فروسيا الحليف الأول لنظام الأسد لا تبدو متفرغة لمثل هذه المبادرات في الوقت الحالي، فجل اهتمامها ينصب على العملية العسكرية التي تقودها داخل الأراضي الأوكرانية، لكنها تعمل على مساعدة النظام السوري من خلال المساعدات وهو نفس النهج الذي تتخذه الصين، خاصة أن العلاقات بين الصين وسوريا لم تتأثر، فعلى مدار السنوات الماضية عملت الصين على تقديم المساعدات لسوريا ما يعزز من فرضية استمرار الصين في تقديم الهبات مثلما فعلت سابقا مع العديد من الدول الإفريقية.

وسط كل هذه الاحتمالات لا شيء مضمون طالما لم تبادر هذه الدول في تقديم مشاريع حقيقية وخطة واضحة عما تنوي تقديمه لسوريا، ولحد الساعة يواصل ضحايا الزلزال لملمة جراحهم بعد أن أخد الزلزال المدمر كل ما يمتلكونه فمئات الآلاف أصبحوا بلا مأوى، أو خائفين من البقاء في مساكنهم المتصدعة، فبالكاد حصل المتضررون على شيء من المساعدات الأساسية، والمستقبل يبدو أكثر غموضاً، فالنظام عاجز عن تقديم المساعدة ليبقى الأمل الوحيد في عودة رجال الأعمال السوريين الذين هاجروا أيام الحرب لكن ذلك مرهون بقدرة نظام الأسد على إقناعهم بالعودة.