بعد إنقطاع طويل يعود المسلسل السعودي الأكثر جرأة في طرح ومناقشة القضايا الاجتماعية «طاش ماطاش» بحلة جديدة ورؤية وصفية تصف الواقع كما هو، عكس الرؤية النقدية السابقة.

أنطلق المسلسل في العام 1993م وأمتد لمدة خمسة عشر عاماً، تجاوز في أثره وتأثيره حدود المحلية وبلغ حدود العالم العربي ليصبح من أنجح وأهم الأعمال التلفزيونية في السعودية والعالم العربي، بل تجاوز ذلك إلى طلب مكتبة الكونجرس الأمريكية لبعض أجزاء العمل لوضعها في أرشيف المكتبة؛ وما كان ليكون كل ذلك لولا الأثر الذي تركه هذا العمل الذي اختار لنفسه خطاً معيناً يتجلى في معالجة وطرح قضايا المجتمع السعودي بقالب كوميدي وسقف حرية مرتفع.

ويمكن القول إنه لا يوجد عمل درامي تحصل على مساحة حرية توازي ما تحصل عليه طاش ما طاش، وتأتي الحلقة الأولى من الجزء الجديد معنونة بـ (الصاعقة) كإشارة لوتيرة التغير الاجتماعي المتسارعة، إذ تضمنت على مشاهد تصف الواقع الاجتماعي الحالي كما هو، مُشِيدةً بالتغير الذي حصل خلال الثمان سنوات الماضية. ولا شك في أن القفزات الانتقالية التي مرّت على المملكة في غضون سنوات قليلة، كثيرة إلى درجة أن الناس لا يكادون يلتقطون أنفاسهم أو يتواءمون مع مرحلة حتى يجدوا أنفسهم في مرحلة تليها.

وقديمًا قال هيراقليط اليوناني "أنك لاتستطيع أن تستحم في مياه النهر مرتين فماء النهر يتغير، وأنت تتغير". إذا فالكل في حالة تغير، والحياة بكل مظاهرها في حالة تغير مستمر، والمجتمعات البشرية كواقع في تغير دائم، وهذا التغير من أسباب بقائها ونموها وبه تتكيف مع واقعها وتسد حاجاتها.

وبنظرة سريعة على ظاهرة الدراما بمجهر سوسيولوجي، نجد أن هناك فرعًا من علم الاجتماع يُعْنَى بدراستها يطلق عليه(علم اجتماع الدراما Drama of Sociology).

ويتناول هذا الفرع بالعرض والتحليل والتنظير والدراسة الدراما بجميع أنواعها؛ المسرحية والإذاعية والسينمائية والتليفزيونية، وكل ما يتصل بها من إشكاليات وقضايا، ضمن إطار نظري يراعي:

1- أن الدراما منتج ثقافي إبداعي لا يمكن فهمه بمعزل عن السياق الاقتصادي الاجتماعي السياسي الذي تظهر فيه؛ وعن خصوصية المجتمع الذي ينتجها الثقافية والتاريخية.

2- أن كل كاتب أو مؤلف للنص الدرامي له إيديولوجية تحتوى على مجموعة من الأفكار والتصورات ورؤى العالم حول المجتمع بكل ما فيه، وتظهر إيديولوجيا المؤلف في الطرح الدرامي لقضايا وإشكاليات المجتمع، وهناك نوعان من المؤلفين؛ الأول الذى يسهم في إنضاج وعي الجماهير أو المتلقين؛ فيطرح في السياق الدرامي لعمله قضايا ومشكلات اجتماعية من الواقع المعاش، وقد يقترح من خلال نفس السياق حلولاً لها، وهذا ما كان يقوم به مسلسل طاش ماطاش في أجزاءه الأولى.
والنوع الثاني من مؤلفي وكتاب الدراما هو الذى يزيف الوعي في طرحه الدرامي ويغرق المتلقي في تفصيلات فرعية ليس لها داع، ليبعد عن الواقع الاجتماعي الفعلي وعن المجتمع وقضاياه ومشكلاته، ويختزل المشكلات الاجتماعية في صيغة فردية وشخصية.

3- أن الدراما بكل أشكالها وأنواعها نص؛ يخضع للتأويل والتفسير، ويحمل معنى كامنًا؛ غير ظاهر لا بد من اكتشافه والوقوف عليه، وعدم الاكتفاء بالمعنى الظاهر أو المعلن للطرح الدرامي.

وتمثل النقاط الثلاث المطروحة سلسلة مترابطة كل حلقة فيها تؤدى للأخرى، ويشكلون معًا إطارًا نظريًا يصلح لتحليل وتفسير ودراسة الدراما دراسة سوسيولوجية ؛ فلا بد من فهم المجتمع وأبنيته وخصوصيته لفهم شكل المنتج الإبداعي الذي يفرزه وهو الدراما، واستيعاب إيديولوجيا مؤلف النص الدرامي وتصنيفها يُمَكِن من الوقوف على الأفكار والتصورات ورؤى العالم الذي يطرحها المؤلف للجمهور، وأخيرًا حتمية فهم النص الدرامي بكل ما يحمله من معان لاستكمال الصورة والبعد عن المعاني الظاهرة إلى المعاني الكامنة والمستترة التي يطرحها النص ويؤكد عليها.