يشهد العالم علامات تدهور اقتصادي ونكوص حادّ يحمل في طياته بذور انهيار وفوضى في ظل جهودٍ دولية حثيثة للملمة تداعيات الأزمة، فهل ستنجح هذه المساعي لتوفير رخاء المجتمع البشري في ظلّ غياب الانسان؟

أحدثت الثورة الصناعية علامة مؤلمة في تاريخ الانسان، حيث عملت على توليد أنوية مادية، بالغت في جشعها وامتلكت كل وسائل الانتاج، فيما اصبحت الشعوب مجرد ارقام عاملة في دولابها، مكرسة بذلك نوع من الاستغلال لم تشهده الانسانية من قبل.

ومنذ مطلع التسعينيات من القرن العشرين حذّر كثيرون من علماء الاقتصاد من الآثار السلبية المحدقة بالبشرية جراء الاحتكارات والظلم الذي أطلقه النظام العالمي الجديد حينها، حيث أدت الليبرالية الاقتصادية التي طالبت بتحرير التجارة الدولية من كافة القيود وبتحرير حركتها وتحويلها من القطاع العام الى الخاص، الى تحويل العالم والدول الى مجموعة شركات متنوعة الجنسيات، يملكها في معظم الاحيان اصحاب النفوذ السياسي، الذين يخوضون الحروب لضمان أسواقهم وفي دوامةٍ من العنف تدور رحاها بين أصحاب الشركات ورؤؤس الاموال، على مركز صنع القرار التي تتحكم في الاقتصاد العالمي وتحرك الاستراتيجيات العسكرية، وكل ذلك على حساب الشعوب والانسان بالدرجة الاولى و الأخيرة ؛صراع أشبه ما يكون بعمل المافيات.

فماذا ينتج عن عمل المافيات تلك؟

اولًا: تغيب الديموقراطيات الفعلية: لان كبرى الشركات تزيح السلطة السياسية أو تشتريها، على مبدأ (كل فرد وله سعره) فالناخبين هم موظفون في شركات الرئيس المُنتخب! وهم يهتفون له في حملاته الانتخابية، ويصبح التنافس على السلطة السياسية في الانتخابات هو مجرد تنافس على النفوذ الاقتصادي.

ثانيًّا: تكريس الصراعات والاعمال العسكرية، بما يضمن فتح اسواق استهلاكية جديدة وتحريك الركود في سوق الأسلحة، وتحقيق المكاسب الاستثمارية بالدول المنكوبة، واعادة توزيع ادارة الثروات من جديد بما يضمن استمرارية عمل المصانع وحصولها على المواد الأولية.

ثالثًا: تدمير البيئة: بشكل مباشر وغير مباشر عبر استنزاف الموارد الطبيعية واستخدام الاراضي لطمر النفايات السامة واستغلال الغابات والثروة الخضراء، وتلويث الطبيعة بالغازات السامة المسببة للاحتباس الحراري.

رابعًا: انهيارالانسان وحقوقه: وهو تحصيل حاصل لمنطق الاحتكار، فالانسان ككيان روحي ونفسي متكامل لا مكان له في هذه المنظومة المادية، وهو مجرد رقم استهلاكي على جدول الاقتصاد العالمي يتم التعامل مع صورته المادية فقط وبعده الجسدي، تصبح المرأة فيه كائنا سليكونيًّا غبيًّا مستهلكا يحقق المتعة لاهثًا وراء عمليات تغيير الخلق، والرجل فيه فرعونًا يسعى لامتلاك المال المؤدي للسلطة الجانية للأرباح!

خامسًا: انتشار وسائل الاعلام المضلل: وهوالخيط الرابط الذي يتخلل شتى اشكال الاعمال المكرسة للعنف، حيث انها تخضع بالكامل لسلطة رجال الاعمال المعلنين الذين يوجهون الاحداث المحلية والعالمية والسياسية والاقتصادية بما يتناسب مع مصالحهم؛ فتُلَوَّن الاخبار وتُبدل الأحداث وتَنقلب المفاهيم ويتصدر الاعلامي النجم المطيع لاستراتيجية فضائيته ويصبح المثقف الانساني الواعي في خبر كان!

من جانب آخر فإن السياسات الخارجية والعلاقات الدولية خضعت لسلطة ومصالح الشركات العالمية العملاقة، فتشكلت المحاور الاقليمية والدولية على اساس اقتصادي تجاري بحت لا مكان للتضامن فيه مع الشعوب لا سيما تلك التي تتعرض لانتهاكات حقوق الانسان، وهُمشّ دور الامم المتحدة واصبح شكليا بلا مضمون، وشُنّت الحروب هنا وهناك خلف قناع مكافحة الارهاب لضمان تلك المصالح.

ومن حقنا ان نتساءل عن تلك العلاقة الجدلية القائمة بين الدول العربية والانظمة العالمية و كيف ان الانظمة الاستبداية الشمولية في العالم الثالث التي تدعي الاشتراكية كانت هي الشريك الاول للرأسمالية السلبية والوقود الداعم لها ومتراسها الحامي؟

إن النظر برَوِّية لمنطق الامور يحتم علينا إعادة النظر في منظومتنا الاقتصادية السياسية، بالكامل ولا نظننَّ اننا في ظل ممارسات الانظمة العربية الموجودة حاليًّا يمكن ان نَسْلَم، فالاقتصاد لم يكن يوما بعيدًا عن السياسة او منفصل عنها، وبعض هذه الانظمة باعت مصالح شعوبها بالجملة والمفرق منذ زمن بعيد، من أجل الحفاظ على دوام زعمائها في مناصبهم وهي قبضت الثمن سلفًا وعلى (داير بارة)، فهم يحكمون وهم على فراش المرض والموت، وما من أحد بمزحزحهم عن عروشهم، ويود أحدهم لو يُعَمَّر ألف سنة.

لا شك في أن الدول الراعية للعولمة الرأسمالية حرصت كل الحرص على ضمان استمرارالانظمة الاستبدادية لانها حققت بذلك مكاسب جمة اهمها:

اولًا: توقيع العقود التجارية والاستثمارية والتي حولت المنطقة الى سوق الاستهلاكي الاول في العالم.

ثانيًا: وضع الدول بحالة تبعية غذائية من خلال السيطرة على المحاصيل الزراعية وتصنيعها، في ظل غياب الأمن الغذائي والدوائي عن مشاريع التنمية!

ثالثًا: الاستغلال السيئ للبيئة والموارد الطبيعية: فالدول الصناعية تستخدم دول العالم الثالث مكبًّا لنفاياتها السامة، ومكانًا جيدًا لانشاء مصانعها في ظل انخفاض اجور اليد العاملة وتنامي عمالة الاطفال، علاوة على انها تحيّد اراضيها عن التلوث البيئي فتنقله بمشاكله الى اراضي الاخرين!

رابعًا: تحول الانظمة الى شركات: ففي الوقت الذي اعلنت فيه الدول النفطية تحالفها الصريح والواضح ومنذ البداية مع ثالوث النظام العالمي الجديد وكانت لاعبًا أساسيًّا في العولمة الاقتصادية وهي منذ البداية تعتمد نظام قبلي في الحكم يكرس مبدأ سلطة الزعيم المالك للمال، فإننا نجد ان الدول العربية الأخرى التي ادعت طيلة سنواتها الماضية واتهمت الآخرين بالامبريالية وتغنّت الاشتراكية ردحًا من الزمن، قد تحولت بعصا سحرية الى الخصصة، فالدول العربية كلها بما فيها الاشتراكية والبعثية تحولت الى شركات خاصة يملكها الزعيم وتوابعه واصبحت الاشتراكية عرين الرأسمالية ومتراسًا لفساد الرأسماليين، وفي صورة غير مسبوقة صار النظام الجمهوري ملكي يوَرّث، إذن نحن امام انظمة اختلفت شعاراتها وتنوعت مصالحها وغير انها في انتهاك حقوق الانسان سواء.

أما من الناحية الفعلية فكلها مرتبطة بالمنظومة الاقتصادية العالمية تلك، وان محاولة بث الاطمئنان في نفوس العباد من خلال الاعلام الموَّجه من قبل السلطات واستضافة اقتصاديين قبضوا ثمن مقابلتهم التلفزيونية سلفًا قبل ان يدلوا بدلوهم ويبشروا الناس بان الاجواء الاستثمارية ممتازة، وان الاوضاع المالية على أحسن ما يرام، لا يغني عن حقيقة ارتباط المصارف المحلية بشكل عضوي بالمصارف الأم، وان انهيار الاخيرة سيؤثر عليها حتمًا، علاوة على ارتباط عملاتهم بالدولار بشكل مباشر وان انهياره يعني تأثرعملتهم به، فثبات سعر الصرف لا يلغي حقيقة فقدان القيمة، إضافة الى تأرجح أسعار النفط واحوال البورصات وانهيار اسعار الاسهم لا يخفى على أحد.

أخيرا، كيف السبيل؟ من الاهمية بمكان ألا تقتصر حركة مقاومة مساوئ الواقع على مجرد رفضه إذ لا بد من طرح بدائل، وتحويل العولمة كمفهوم الى فرصة حقيقية للانطلاق نحو تقريب الشعوب وحشد الطاقات من اجل سيادة الانسان وحقوقه.
فالممانعة المدنية تكون بإعلام الساسة علنًا وبشكلٍ مباشر، بضرورة تبني منظومة اقتصادية تحقق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية، منظومة يكون الانسان محورها وهدفها تحقيق حقوقه، والعمل بتكاتف كي لا يحتكر البعض منافع الثروة وان توزع المغانم بشكل عادل دون ان تلغي مبدأ الملكية.

ان احد اهم الخطوات هو السعي الى إقامة منظومة سياسية انسانية، نعم إنسانية! وقوامها الديموقراطية و الحرية التي من شأنها أن تتيح الوصول الى عدالة نسبية من خلال توزيع عادل للمكاسب الاقتصادية، والعدالة لا تعني التساوي بطبيعة الحال، وذلك لا يتحقق الا بإضفاء بُعد أخلاقي و روحي، واعطاء معنى جديد مغاير لذلك السائد القائم على المادة فقط.

نتطلع الى عولمة القيم الانسانية وعولمة السلام، القائمة على احترام الانسان وحريته وحقوقه، واحترام الطبيعة والحفاظ على البيئة، والعمل على منع الحروب من الاندلاع وتحقيق السلام، وادراج الأخلاق في العمل السياسي والاقتصادي، رأسمالها الانسان الحرّ، فلسفتها تقوم على كونية الانسان، وهدفها تقريب شعوب العالم وتلاحم انظمته وتساندها وتناغم ثقافاته وتحقيق اكبر مشاركة ممكنة بين شعوب الارض.