مع مرور قرن كامل على عقد اتفاقية لوزان في 24 يوليو 1923، التي ألغيت بموجبها معاهدة سيفر (1920) التي كانت قد أقرت بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، في أعقاب انتهاءالحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، بما في ذلك الحق في الاستقلال في دولة قومية خاصة، على غرار مختلف القوميات الكبرى في المنطقة .

فإن بقاء القضية الكردية حية ومتقدة كأحد أكبر القضايا العالقة دون حلول عادلة وجذرية لها في مختلف الدول التي تقتسم كردستان، يثبت بعد 100 عام بالتمام والكمال على لوزان أنه لا بد في نهاية المطاف ومهما أوغلت تلك الدول في سياسات الإبادة والقمع والإنكار والصهر القومي، وفي عقد الاتفاقات البينية ومع قوى دولية لتصفية هذه القضية، فإن السبيل الوحيد يبقى الاقرار بحقوق هذا الشعب القومية والديمقراطية وفق صيغ حل سلمية وعادلة تضمن مصالح كافة الأطراف.

فالخطاب السياسي الكردستاني عامة وعلى صعيد مختلف القوى السياسية وخاصة المؤثرة والكبرى منها، هو خطاب مطلبي وحقوقي مبدئي لكن واقعي وبراغماتي وعقلاني، ملم بقواعد اللعبة الدولية وتوازنات القوى وتشابك المصالح في المنطقة وحول العالم.

ولهذا فالأكراد مع احتفاظهم بطموحهم المشروع في تأسيس كيانهم القومي الجامع لهم، يسعون لممارسة تقرير مصيرهم في إطار دول ديمقراطية تعددية تصون خصوصية وضعهم بشكل دستوري وقانوني، وبما يضمن لهم الشراكة والتكافؤ مع القوميات السائدة والحاكمة في الدول التي يتوزعون عليها، في سياق تعزيز مفاهيم ومبادىء اللا مركزية والديمقراطية التوافقية، وتوزيع السلطات والثروات بشكل عادل بين مختلف المكونات والشعوب التي تتشكل منها هذه الدول.

ففي كردستان العراق مثلا اختاروا الفيدرالية شكلا لحل قضيتهم في اطار العراق الديمقراطي الاتحادي، وكان الإتحاد الوطني الكردستاني أول من تبنى الحل الفيدرالي، في أول تجربة من نوعها رغم كل ما يشوبها من ملاحظات وأخطاء وسلبيات.

لكنها أثبتت إمكانية التوصل لحلول توافقية وعملية لفك عقدة الفوبيا الكردية في هذه الدول، ونجح العراق وأكراده بذلك في تقديم نموذج حل سلمي ودستوري للقضية الكردية، رغم بقاء ملفات خلافية عديدة عالقة أبرزها ملف المادة 140 لكن مع ذلك فإن المهم هو أن الأكراد هم جزء من ادارة الدولة العراقية ككل، وليسوا فقط متقوقعين في إقليمهم الفيدرالي، ويخوضون معركة إكمال نيل استحقاقاتهم الدستورية والوطنية من قلب العاصمة العراقية بغداد.

وهو ما يمكن بل وينبغي تعميمه في بقية الدول التي يتوزع الأكراد بينها، ليس بالضرورة بمعنى قص ولصق نموذج كردستان العراق، وإنما وفق منهجية الإقرار بإن الأكراد هم شريك وطني كبير ويشكلون مع مناطقهم الغنية بمختلف الموارد والثروات الطبيعية والبشرية، قوة لا يستهان بها وحقيقة لا يمكن اغفالها ولا طمسها، وبإن هذه القوة هي عامل إثراء وإغناء وتعزيز لاستقرار وديمقراطية هذه الدول وضمان لمستقبلها ووحداتها الطوعية القائمة على احترام التعدد والتنوع.

فلكل جزء من كردستان بطبيعة الحال خصوصياته وظروفه الموضوعية والذاتية التي تميزه، لكن مع هذا فإن اعتماد هكذا مقاربة عقلانية وديمقراطية بعيدة النظر في التعاطي مع القضية الكردية في كل بلد، سينعكس إيجابا في كسب عقول وقلوب عشرات ملايين الأكراد في المنطقة ككل وليس في ذلك البلد المعني فقط، فنحن نتحدث عن أمة عريقة تشكل جزءا لا يتجزأ من النسيج الحضاري والتاريخي لهذه المنطقة الحيوية من العالم.

ليس بالبكاء على أطلال معاهدة سيفر ولعن اتفاقية لوزان، بل بإبقاء شعلة النضال القومي المشروع متقدة، وبآليات مدنية وديمقراطية وعصرية بالدرجة الأولى، يثبت الأكراد أنهم في مئوية مؤامرة لوزان قد أفرغوها من محتواها، فهم باقون ليس كوجود بيولوجي فقط، بل كحلم وطموح وكقوة وإرادة شعبية مترجمة في حراكات ثورية بلا هوادة ومشروعات سياسية وتغييرية كبرى، ترنو نحو غد الحرية والديمقراطية للشعب الكردي وللشعوب الشريكة له في تلك البلدان .