في دولة لا رئيس لها، وتعاني انهيارًا اقتصاديًّا حادًّا، وتفشيَّا علنيًّا للفساد والسرقات بشكل مقزّز، ومع غياب شبه تامٍّ للخدمات كافّة بما فيها الصحية، وفي ظل انقطاع أبسط الموارد الحياتيّة، ومع تفاقم المعاناة الانسانية عند شعبٍ أمسى حلم معظم ساكنيه المغادرة الى أي بقعةٍ أخرى من هذا الكوكب تكون الحياة عليها أكثر أمنًا ورفاهية، فإن الأحداث الداخلية لهذا البلد المنكوب توحي بما لا يدع مكانًا للشك أننا أمام ظاهرة سياسية واجتماعية فريدة.

فقد تدفق آلاف اللبنانيين بانتظام وسيرًا على الأقدام، وهم يرتدون اللون الأبيض لحضور حفلة عمرو دياب التي اقيمت مؤخرًا في بيروت، وفيما كانت كافة تذاكر الحفل قد نفدت قبل موعد الحفل بوقت طويل، فقد تجاوز سعر بعضها في السوق السوداء عتبة الخمسمئة دولار أمريكي. وقد انتهى الحفل المجيد بأقل من ساعتين وغادر جمهور الحاضرين مخلفًا وراءه أرتالاً من النفايات.

بطبيعة الحال فإن عشق اللبناني للحياة وابتهاجه بشتى انواع الترفيه والسياحة ومقاومة كافة اشكال القهر بفعل الحياة أمر رائع لا ضير فيه على الإطلاق، وانتظام الشعب الكريم بارتداء اللون الموحد لحضور الحفل مؤشرعلى ان عمرو دياب نجح في توحيد اطياف اللبنانيين حيث اخفق فيه الجميع، ايضًا فإن بيروت تألقت بصورة رائعة واثبتت انها عصيّة على الموت.

كل ذلك جميل ومفهوم ومُرَحّب به فليحتفل من يريد وليطرب من يشاء. لكن وألفُ لكن والكثير من علامات الاستفهام الجوهرية والمحورية التي على الانسان السوي ان يتوقف عندها ومنها: أليس من البديهي ايضًا ان يقف الجمع الشعبي بوجه المافيا مطالبًا بحقوقه المهدورة كما وقف في الحفل؟ ولماذا ينجح فنان في حفل بجمع اللبنانيين فيما تفشل المصائب المشتركة في توحيد كلمتهم؟ ولماذا يصبح فيلم "باربي" السطحي مثار انقسام في الرأي العام بوقت يعاني فيه الناس الأمُريين من نقص الضروريات؟ وكيف لإنفجار ضخم دمّر العاصمة ان يمر التحقيق حوله مرورا ولا تجد من يقف بوجه الطغيان؟

ايضا حدثان مهمان في يوم واحد وقعا الأسبوع المنصرم، كانا كفيلين باشعال فتيل النزاع في البلاد: الأول انقلاب شاحنة نقل اسلحة وذخيرة كبيرة تابعة لميليشيا حزب الله متجهة من البقاع الى بيروت عبر الطريق الدولي على منعطف بلدة الكحالة، وهو واحد من أخطر المنعطفات في البلاد حيث تُسجل نسبة كبيرة من حوادث المرور عليه، وفيما هرع الاهالي الذين لا يعلمون عن حملة الشاحنة شيئا للمساعدة ونجدة السائق فيما عمدت المرافقة المسلحة المواكبة للشاحنة الى ابعاد الناس واطلاق النار، مما ادى الى اشتباكات انتهت بسقوط قتلين من الطرفين، فيما حضر الجيش اللبناني بعدها ليمارس دوره المعهود في احتواء الموقف والتهدئة وفرض السيطرة الشكلية ويمنع انفلات الامور دون ان يمس بامتيازات الميليشيات ودون ان يزعج حزب الله الذي يمارس عنجهيته جهارا نهارا عبر السلاح والاكراه.

اما الحدث الثاني فهو توجيه وزيرالثقافة محمد مرتضى طلباً إلى الأمن العام اللبناني، وهو الجهة المخولة الرقابة المسبقة على الأعمال الفنية المعدّة للعرض في لبنان، لاتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع عرض فيلم "باربي" لأنه "يروّج لأفكار دخيلة على المجتمع"، و"يتعارض مع القيم الأخلاقية".

ففي بلد ينتشر فيه السلاح المتفلت والخارج عن سيطرة الدولة، لا تثير مسألة اقتناء السلاح جدلاً بقدر ما تثيره مسألة من استفز الآخر ليشهر سلاحه. اما ميليشيا حزب الله فهي قد بلغت ذروة مجدها ولم تعد تلق بالا ولا جوابا لأحد وقد استقر امر كل امر في البلاد لها، فيما يعيش اللبنانيون الحالمون اوقات عصيبة. ايضا مرّ موضوع شاحنة السلاح المتوجهة "الى بيروت" ولنضع الف خط تحت "بيروت" مرورا طفيفا بينما الشعب اللبناني العظيم منشغل بأخلاقيات فيلم تافه ومدى تأثيرها على مجتمع منهار أصلا اكثر، ومنشغل بحفل عمرو دياب الترفيهي فيما ارتال النفايات قد اغرقت الشعب حتى اذنيه.

يمكن القول إن كل تلك المصائب الجمّة لم تجعل الشعب اللبناني ينضج بما يكفي ليقول كلمته بوجه مافيا السلطة والمال والسلاح، وتجعله يميَّز بين أولياته الملحة الضرورية العاجلة التي ينبغي معالجتها بشكل سريع وطارئ وبين همومه الثقافية التي تُعدّ من باب الترف الفكري لمناقشتها في ظل الظروف الراهنة. وانه دوما يتجه ليتلهى بزوبعة بدلا من التركيز على الهدف الأساس وانه يخضع كل شيئ بشكل مباشر للتوظيف السياسي لتطفو على الفور الانقسامات الطائفية والمذهبية الحادة.

اذن والحالة هذه لا يمكن لأي جهة ارضية كانت او سماوية ان تغيّر الواقع البئيس ما لم تتحد فئة من المجتمع على ذلك، فشعب يرمي بنفاياته ارضا ويجد في فيلم خطرا على الاخلاق اكبر من خطر السلاح لا يُعول عليه!