في خِضمّ الأزمات الغير مسبوقة التي يشهدها الكوكب، ومن عمق التداعيات الكارثية التي تطال البشرية، انعقدت أعمال قمة الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، بمشاركة نحو 150من قادة العالم، حيث تضمنت أعمال هذه الدورة: قمة أهداف التنمية المستدامة، وقمة التمويل العالمي، و3 اجتماعات رفيعة المستوى حول الصحة والمناخ والشباب، إضافة إلى اجتماع خاص لمجلس الأمن بشأن أوكرانيا.

وعلى الرغم من تنوع المواقف والمنطلقات والحيثيات والكيفيات للدول المشاركة، إلا أن معظم رؤساء العالم اشاروا الى ضرورة التوصل لنظام عالمي دولي جديد، في وقت فشل مجلس الأمن فيه بالقيام بدوره في حفظ السلم.

الرئيس الأميركي جو بايدن وفي كلمته حضّ زعماء العالم على التكتل ضد روسيا، ورفض العدوان السافر الذي تنفذه ضد أوكرانيا. محذرًا في الوقت عينه من تداعيات ذلك معتبرًا ان ما يقوم به الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيؤدي إلى تقويض سيادة كل الدول، وميثاق الأمم المتحدة.

كما أكد على أن بلاده تؤيد بقوة توسيع مجلس الأمن وإصلاح الأمم المتحدة، مشيرا الى ضرورة العمل بشكل متعدّد الأطراف، معتبراً أنه لا يمكن لأمة بمفردها مواجهة التحديات العالمية الحالية.

أما الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي فقد عرض في كلمته تداعيات الحرب على بلاده من زاوية مصالح تلك الدول، معتبرًا ان روسيا تحاول المناورة بموضوع نقص الغذاء العالمي لكسب اعتراف دولي بالأرض التي استولت عليها من كييف. قائلا إنها (محاولة لاستخدام نقص الغذاء في السوق العالمية سلاحا مقابل الاعتراف ببعض، إن لم يكن جميع الأراضي التي استولت عليها؛ متهمًا روسيا بارتكاب جرائم إبادة جماعية من خلال خطف أطفال أوكرانيين، ومؤكدًّا ان بلاده تفعل كل ما في وسعها لضمان أنه بعد العدوان الروسي، لن يجرؤ أحد في العالم على مهاجمة أي دولة، وانه على المحتل أن يعود إلى أرضه، مشيرا الى ان كييف تعمل على الإعداد لقمة عالمية للسلام).

أما المستشار الألماني أولاف شولتس فقد دعا العالم الى التدخل لمساعدة اوكرانيا نظرا إلى العواقب التي لا يمكن تحمّلها للحرب بالنسبة للجميع. منبهًا في الوقت عينه من الحلول الزائفة التي تمثّل السلام اسميا فحسب، وفي ذلك تحذير مبطن من الدعوات المدعومة من روسيا لوضع حد للحرب بناء على شروطها عبر تركها عمليا إبقاء سيطرتها على مناطق أوكرانية. كما حمّل روسيا مسؤولية اشعال الحرب مطالبًا بوتين بإيقافها وانه هو الذي يمكنه وضع حد لها في أي وقت وبأمر واحد منه.

وفيما تسعى كبرى الدول الغربية الى تقاسم الاعباء جراء الحرب وتقديم المساعدات لأوكرانيا، فإن الدول المتعثّرة تجد في هذا الاهتمام أمرا مبالغًا فيه، حيث اعتبر رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامابوزا، ان ذلك إدانة خطيرة للمجتمع الدولي الذي ينفق كل هذه الأموال على الحرب بينما لا يمكنه دعم التحرّك اللازم لتغطية احتياجات أساسية لمليارات البشر. وذلك في اشارة الى المساعدات العسكرية المقدمة لأوكرانيا من الولايات المتحدة بقيمة حوالى 43 مليار دولار.

أما ايران التي غالبًا ما تكرر مواقفها وتستفيد من الوقت في المراوغة بشأن برامجها النووية ناهيك عن عدم التوقف عن تمديد نفوذها، فقد هاجمت - كالعادة - الدول الغربية، حيث كررالرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي في كلمته الهجوم على سياسات الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، متهماً إياهم بالسعي إلى السيطرة على العالم، داعياً إلى إنهاء الهيمنة الأميركية لتأسيس نظام عالمي جديد واستبداله بنظم وتعاون إقليميين، مضيفًا أن سياسة الجوار على المستوى الأمني تسعى إلى ضمان الأمن المستدام عبر التعاون داخل المنطقة ومنع التدخلات الأجنبية.

ومن المفارقات "الهزلية" وتواطؤ الأضداد لاكتمال المسرحية خلال القاء الرئيس الايراني لكلمته، تمّ اخراج عناصر الأمن للسفير الإسرائيلي جلعاد أردان الذي انتقد "التشوهات الأخلاقية" معترضًا على السماح لإيران بالمشاركة في الجلسة العامة فيما بلاده تعيث فسادًا وتنتهك حقوق البشر والحجر.

أما تركيا التي تسعى لأن تجد لنفسها دورا محوريًّا اقليميًّا ودوليًّا، فقد جاءت كلمة رئيسها رجب طيب أردوغان، لتؤكد على ان مجلس الأمن لم يعد ضامنا للأمن العالمي، وأصبح ساحة معركة للاستراتيجيات السياسية لخمس دول فقط، في إشارة إلى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. مشيرًا الى انه يتفق مع الأمين العام للأمم المتحدة حينما قال مؤخرًا إن المؤسسات التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية لم تعد تعكس واقع اليوم. ليجد من ذلك مدخلا لتثبيت موقف بلاده وحقها في قبرص، وان ذلك يعد برهانا على "الهيكلة الحالية للمؤسسات الدولية التي لا تعبر عن العدالة والتضامن في حالات الحرب"، مؤكدا دعم بلاده لمبادرة الأمين العام التي تحمل عنوان "خطة جديدة للسلام".

أما الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو فقد اسهب في الحديث عن أزمة المناخ وسبل مواجهتها، منبها إلى أن الدول الكبرى لا تولي أهمية لمعالجة هذه الأزمة، فيما أشار إلى آثار التغيير المناخي على بلاده والتحذيرات من تحولها إلى صحراء وبيئة طاردة بحلول عام 2070؛ كما دعا الى وقف الحرب في كل مكان، متحدّثاً عما سمّاه النفاق في التعامل مع قضايا وأزمات دولية، مثل قضية اللقاحات ضد فيروس كورونا، والحرب الروسية في أوكرانيا.

من جانب آخر، لا جديد في كلمات رؤساء الدول العربية، فقد دعا الملك الأردني إلى ضرورة التوصل لحل بشأن اللاجئين السوريين في بلاده، مشيرا الى ان الوكالات الأممية التي تقدم خدمات حيوية لتلبية احتياجات اللاجئين خفّضت التمويل في الأشهر الأخيرة، ما جعل هذه الأسر في عوز وخطر وانعدام لليقين. ومحذرا في الوقت عينه من مآلات ذلك وتداعياته معتبرًا ان ذلك سيدفع باللاجئين إلى الهروب نحو أوروبا في رحلات تكون محفوفة بالمخاطر.

أما الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، فقد دعا إلى عقد جلسة استثنائية للجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل التصويت على منح فلسطين العضوية الكاملة كدولة في المنظمة. كما اكد على ضرورة التوصل لنظام عالمي دولي جديد قائم على المساواة، مؤكدا أن مجلس الأمن ضعف في القيام بدوره في حفظ السلم والأمن الدوليين ومنع اللجوء للقوة.

أخيرا وبعد هذا العرض السريع، يمكننا القول أنه لا جديد في المواقف الأممية والدولية، وعلى الرغم من ان المجتمع الدولي عقب الحرب العالمية الثانية حاول ان يمارس دورا انسانيًّا ايجابيًّا ساهم في رفع المعاناة حينها عن بعض الشعوب؛ فإن القيم الانسانية لم تعد طرفًا في اي معادلة دولية الآن إلا بالمقدار التي تُوَظَّف فيه لصالح الدول الكبرى، والتي لا همَّ لها سوى مزيد من السيطرة والربح، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن جدية الدبلوماسية الدولية وحقيقة طروحات السلام، بعد ان اصبحت الحروب المباشرة او غير المعلنة وسيلة مقبولة للعلاقات الخارجية.

ولعل المطالبات المشتركة بضرورة اعادة النظر في بنية مجلس الأمن وتوسيع نطاقه والسعي لايجاد نظام عالمي جديد، لا يهدف لتحقيق مزيد من المشاركة والعدالة والرفاهية لشعوب الأرض بل ان الممارسات الواضحة لقادة العالم وكلماتهم توحي بقدر لا يرقى للشك بأن الهدف هو "ادارة الهيمنة" عبر توزيع جديد للأدوار بين الدول الكبرى والإقليمية التي يتزايد نفوذها، وبالتالي فان الدعوات نحو "السلام " ووقف الحرب لا تعدو عن فصل في مسرحية توزيع السيطرة واعادة اقتسام الكعكة من جديد .