طالما تخيّلته كائنًا يمشي على اثنين، عظيم الحجم، ضخمًا... ربما أشبه بمارد رسمَته في مخيلتي أفلام الكرتون التي كنتُ أشاهدها وأنا صغيرة... لكنَّ عيبَ ترك مرحلة الطفولة هذه هو أنَّ الصور في المخيّلة تتكسّر على صخور واقع الكبار... أي ما بعد الطفولة...
أعور الدجال الذي طالما تخيلته كان أزعر الشعر، وبعين واحدة تتوسط جبهته... ولأكون صادقة، كنتُ أراه بشعًا جدًا، خاصة أنَّه لم يكن يملك أي حسٍّ بالأناقة أو بأصول ترتيب هندامه؛ إذ كان يظل يروح ويجيء في خيالي ببذلة واحدة: قميص طجيني بأزرار، وبنطلون من طيف اللون عينه لكنه أغمق بدرجات من القميص، وحذاء يشبه ذلك الذي تنتعله الجيوش. ولعل هنا المفارقة، إذ إنّ َهذا الحذاء هو ما بقي من صورة أعور الدجال عندما غادرتني الطفولة...
عندما غادرتني الطفولة، وجدتني في عالم متوحّش يطيب له أنْ يتحدث بالإنسانية، مع أنَّه يقول كلَّ ما لا يفعله!!! وهنا المفارقة التي لم يستوعبها عقلي...
هذا العالم يتحدث عن الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصيرها، ويُعلن أرضه رمزًا أبديًا للحرية، هذا الحلم الأجنبيّ الذي سيحرر كهوف الشرق المظلمة، وهو في المقابل يقرر مصائر شعوب ترزح تحت ظلم تقاريره، وقراراته، ومقرراته!
هذا العالم يصدح بالدفاع عن حقوق الإنسان، وهو يمارس أبشع أنواع التمييز العنصري بين أطياف الناس كافة! فهناك طفل قيمته محققَّة فاعلة ثابتة متصاعدة، أُعطيَ كل الحقوق حتى تلك التي لم تصدر عن منظمة حقوق الإنسان بعد حتى وإن لم يولد. وهناك طفل، يُحرم من الماء والطعام والهواء والحياة والحرية... يجرّدُ من إنسانيته، فيُسبى ويُهجَّرُ ويُشوّه ويُعذّب ويُعتقل ويُسجن ويُحاكم حتى قبل أنْ يولد، لا لسبب إلاّ لأنَّه هو صاحب الأرض والحق!
هذا العالم يعزف يوميًا على أوتار قانون يُدين قصف المدنيين، ويُموّل من يقول إنَّه يدافع عن أرضه وحقِّه بالحرية ويرفض عليه الاعتداء، أو الاستعمار أو الاحتلال أو الانتداب والاستيطان أو حتى التبعية، وهو في المقابل، يهلّل ويبجّل ويتغنّى ويحثُّ على إبادة من لهم الأرض لصالح من يصنع مأساة صاحب الأرض - مأساة شعب بكامله بأكاذيب وعود ألَّفها وأسمَعَها أذنيه فصدَّقها! والمُضحك المُبكي، أنَّه – أي هذا العالم- يقف خلف المنابر يصدح بعبارات «كليشيه» عن الحق بالسلام والحرية والأمن، منتشيًا بما يقول، يجترُّ لسانه تصريحات رنّانة، ويدُه وأمواله مسلّطة على رقاب الأطفال والنساء والعُزَّل تذبحهم لا قرابين، بل كـ«حيوانات» غير آسفة، أو شاعرة بالذنب ولو قليلاً...
هذا العالم – بعد أن غادرتني الطفولة- صار هو أعور الدجال... لأنَّه لم يُكسّر الصور التي صنعتها براءة مخيلتي فحسب، بل حطَّم مفاهيم الدمقراطية، وحقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها... وغيرها من الشعارات التي يتغنَّون بها في الأمم المتحدة ومجلس الأمن واجتماعات الدول المؤثِّرة في السياسات العالمية، حطّمها بهمجية الوحش الكاسر الذي تناسى أنَّه خُلِق يمشي على قدمين بعقلٍ صُنع من أجل الخير الذي أطفأ نوره فيه حتى لا يدرك أنَّه حيوان عاقل...
هذا العالم، هذا العالم هو هذا الوحش الكاسر الذي نسي أنَّه إنسان عاقل... نسي أنَّه بشر فاِستشرس حتى صار الوحش متعلّمًا غير لبيب في مدارسه، والشيطان رضيعًا يحبو في منازله، يتعلم منه فنون القتل، والتهجير، والتنكيل، والدمار، والإبادة، وسرَّ صناعة المجازر بقلب ضاحك ووجهٍ يتباكى مدعيًّا أنَّه الضحية!!!
هذا العالم هو أعور الدجال، لا تلك الصورة التي كانت تداعب مخيلتي وأنا في عمر الطفولة... وبعد أن غادرتني طفولتي، تكسّرت الصور لأدرك أنَّ الأعور ليس إنسانًا واحدًا، بل هو كُثُرٌ أغلقوا في قلوبهم وعقولهم نافذة الحق وأبقوا على نافذة الباطل ينظرون منها؛ هو كُثر أقفلوا نافذة العدالة وفتحوا باب الجور يقذفون منه صواعق قهر لا تستهدف إلاَّ من ليس له علاقة بأي صراع؛ هو كثُرٌ جعلوا الناس من نافذتهم فئتين لا جامع بينهما: فئة يحق لها العيش، وفئة لا يليق بها سوى الموت البشع!
أعور الدجّال هو كُثُرٌ يريدون من مغدور مقتول مذبوح مقصوف مُفجَّرٍ مطمورٍ أنْ يسدِّد دينهم عندما كانوا يحملون بندقية العرقنة، وكبريت المحارق! أعور الدجّال هو كُثُرٌّ يحاضرون في الأخلاق، وهم لها هاجرون وللحكمة والاتعاظ والتعاطف والحقيقة...
أعور الدجّال هو كُثرٌّ كانوا في الأمس البعيد أناسًا.
ومنذ سبعين عامًا واليوم أيضًا ومنذ أنْ تكلّم صاحب «الأرض-الوعد الكاذب»، أعور الدجّال هو كُثرٌ وأدوا الحياء والخجل والإنسانية وارتقوا إلى مصاف الذئاب والضباع ينهشون لحوم الأحرار وهم يرسمون أحلامَ الشعوب المستغفلة بديمقراطية كاذبة، وحقوقَ إنسان لا تكاد تُحاكي بأهميتها الحبر الذي كُتبت به...
غادرتني الطفولة، ولم يعد أعور الدجّال صورة مخلوق في مخيلتي... إذ بعد أن غادرتني طفولتي، صار أعور الدجال دولة بل دولاً، مجتمعًا بل مجتمعات، إعلامًا بل فضاءات إعلامية، طبيبًا يحقن مرضاه بالسُّم، مراسلاً رأى طريق الحق فحاد عنه عن قصد، ولسانًا كان في زمن غير تلك التي نعرفُ كان – ربما كان- إنسانًا...
- آخر تحديث :
التعليقات