أسوأ عادات السلطة التي اكتسبتها من سيرة السابقين هي الشيزوفرينيا التي تمارسها بحق شعبها، في ذات الوقت الذي تنتقد النظام السياسي السابق الذي قامت على أنقاضه، ليتكرر السيناريو السابق أن سَرديّة السلطة التي لا تستطيع الرد على الخصم السياسي بالطرق المشروعة تذهب لأسهل الوسائل وهي البطش والتنكيل لكل من يردد رأياً منتقداً.

ما الذي استيقظ عليه العراقيون؟ ولماذا أصبحت السلطة تعامل النخب الفكرية والثقافية وأصحاب الرأي بهذه القسوة المفرطة؟ هل ثمّة ثأر بين الطرفين ينبغي على أحدهما أن يُسدده؟ ومتى يكون هذا البلد ملاذاً آمناً لتصفير ذلك الثأر الذي لا ينتهي؟ لماذا تحمل مجلدات تاريخ العراق السياسي كل تلك القصص من الخوف والدم والنار؟ والسؤال الأهم من الذي يؤسس لبُنية التنكيل وإسكات الأفواه طويلة الأمد في العراق؟

من الواضح أن السلطة تريد من أصحاب الرأي أن يكون حديثهم عن الفساد مثلاً وكأنه حالة اعتيادية تتعايش معها بكل طيب خاطر، كما لو كان رأياً في أحداث فيلم عربي.

بعد أكثر من عشرين عاماً من التغيير المزعوم، لا زالت حرية التعبير عن الرأي تُصلب على مذبح الألم الذي قد يكون موجعاً في كثير من الأحيان، ولا زال السؤال هائماً يبحث عن الجواب.

تخلّت السلطة عن أعداء الوطن الحقيقيين الذين يتربصون بالبلاد والعباد، لتنشغل بمن ينتقدها أو ينصحها، بالرغم من أن الدستور العراقي كفل حرية التعبير عن الرأي وحق الكلام، لأن محصلة تلك الحرية هو تقويم وتوجيه عمل مؤسسات الحكومة لما فيه خير المواطن ويجعل من الصعوبة الطمطمة أو إخفاء الأخطاء تحت تبريرات الفساد وإخوانه.

علاقة مأزومة بين السلطة وأصحاب الرأي، من الواضح أن قواعد الاشتباك لن تنتهي قريباً، خصوصاً عند شعور السلطة بذلك الوهم والاعتقاد أن الطرف الآخر ينوي احتلال مكانها وتقويض زعامتها، وتحاول بكل ما تستطيع أن تمنع الاقتراب من قُدس الأقداس لها وهي السلطة والنفوذ.

حاول أن تعبر عن رأي يُطالب ببناء عراق مزدهر ينعم أبناؤه بثرواته المهدورة بدل الفاسدين واللصوص، وإن توفر لهم التعليم اللائق والعلاج الطبي الصحيح بدل موت الفقراء على أبواب المستشفيات الحكومية التي لا تعطي غير حبة البراسيتامول أو العلاج في مستشفيات خارج العراق من استطاع إليه سبيلاً؛ حاول أن ترسم صورة مشرقة لوطن آمن مستقر ينبذ الطائفية والمحاصصة؛ وستجد أمامك من يتهمك بخلخلة أركان السلطة وتحذير شديد اللهجة قد يهدد وجودك. حاول أن تسأل أي كاهن من كهنة المعبد، من أين لك هذا؟ سيأتيك الجواب جاهزاً "هذا من فضل ربي"، وربما تُحاكم على جريمة السؤال والتجرؤ على من لا يجوز لك سؤالهم.

أصبح الحديث عن الفساد ومشتقاته هذياناً فارغاً لا معنى له، وربما الفضول والتدخل في ما لا يعني المتدخل من وجهة نظر السلطة.

الذين كانوا ينتقدون النظام السابق قبل عام 2003 والذين سكنوا قصوره وقاموا على أنقاضه، ها هم اليوم يُعيدون سيناريو البطش والتنكيل بمن يخالفهم الرأي، لكنه الوهم الذي يغطي عقولهم فمحاولات تكميم الأفواه لن تجعل الأخطاء تختفي أو تذوب، وإن سكت المواطن اليوم فربما ستحتفظ ذاكرته بالكلام لينطق به غداً وهذا ما فات السلطة تذكره.

لقد أصبح صاحب الرأي في العراق أكثر خوفاً من السلطة، والأغرب ما تفعله ماكنة الإعلام الحكومي من ترسيخ مفهوم التخوين وتهميش دور المثقف بحيث لا يستطيع منافسة رجال السلطة والدين والعشيرة في تحديد بوصلة الرأي وحتى صنع جيل من أنصاف المثقفين والمطبلين الذين لا همّ لهم سوى التهليل والتكبير للسلطة بمزايا وأجور يسيل لها لُعاب المهزوزين، لذلك اختار أغلب أصحاب الرأي الاعتكاف والابتعاد عن الإدلاء بآرائهم خوفاً على مصائرهم وأرزاقهم، عسى أن يحين موعد التغيير المنشود ونقول عسى.