يجادل الكثير في طبيعة العلاقة الأميركية – الإسرائيلية ومدى استعداد الولايات المتحدة على ممارسة الضغوط على الكيان الصهيوني من حيث القدرة ومن حيث التوجه ومن حيث الإمكانية، وفي السياق التاريخي يبدو واضحاً أن لدى الإدارة الأميركية القدرة، بل لديها كل المفاتيح التي من خلالها تستطيع أن تُطوّع إسرائيل، وقد ظهر ذلك في اتفاق الهدنة في رودس عام 1949 وفي حرب تشرين الأول (أكتوبر) عام 1973 وما لحقها من جولات وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر المكوكية، وظهر أيضاً في العام 1990 وضغط الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب على رئيس وزراء إسرائيل آنذاك إسحق شامير، حيث أرغمه على حضور مؤتمر مدريد للسلام، والدخول في مفاوضات متعددة الأطراف ومفاوضات مع الوفد الأردني – الفلسطيني المشترك. وفي عام 1996 بعد أحداث النفق وإرغام رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على توقيع اتفاق "واي ريفير"، ويمكن تلخيص العلاقة بين الطرفين في بعض النقاط التالية:

أولاً - الأميركي يستطيع الضغط على دولة إسرائيل.

ثانياً - الأميركي يستطيع أن يطرح خطة ويأتي به، أي الإسرائيلي، للمفاوضات.

ثالثاً - الأميركي لا يستطيع أن يفرض على إسرائيل أن يكون لأي مفاوضات نتيجة.

رابعاً - الأميركي يحاول دائماً تحقيق المطالب الإسرائيلية التي لديه عليها أغلبية أو إجماع.

خامساً - التعارض الأميركي - الإسرائيلي من الصعب أن يتحول إلى تناقض لأنَّ العلاقة الاستراتيجية أكبر بكثير من أي شيء آخر، حتى لو كان ذلك لا يتماشى مع المصالح الأميركية، لأنه يمكن تحقيقها بطرق أخرى.

سادساً - هناك ترابط أسموه قيمي وثقافي بين الطرفين، ولكن في حقيقة الأمر هناك ترابط يستند لأيديولوجيا الإنجيلية "المسيانية"، لمفهوم الصهيونية المسيحية، ولدور اللوبيات الصهيونية التي لها الكلمة العليا في الدولة العميقة الأميركية، ولسيطرة كارتيلات الاقتصاد في الطاقة والمصانع العسكرية وشركات الأدوية والإعلام والتواصل الاجتماعي وغيرها، وارتباط ذلك بقوة مع تلك اللوبيات، وهنا أشير لما نقله الكاتب نظير مجلي في مقال له في جريدة القدس: "روى المؤرخ توم سيجف أنه، يوم 3 أكتوبر 2001، دعا شارون المجلس الوزاريّ – السياسي الأمنيّ المُصغّر في حكومته إلى اجتماع لتدارس الدعوة الأميركيّة لإسرائيل بوقف إطلاق النار في الضفّة الغربيّة المُحتلّة. وخلال النقاش اعترض شمعون بيريس، على اتخاذ أي إجراء يستفزّ الحلفاء في واشنطن، إلا أن شارون ردّ عليه 'لا تقلق يا عزيزي بشأن الضغط الأميركيّ، نحن الشعب اليهوديّ نُسيطر على أميركا، والأميركيون يعرفون ذلك'".

سابعاً - يلاحظ أنَّ الإدارات الجمهورية هي القادرة حين يكون لديها الإرادة للضغط على الحكومات الإسرائيلية.

ثامناً - يبدو أنَّ الصهيونية العالمية التي تُعتبر إسرائيل ركيزتها وقاعدتها قد تحولت من كونها "أداة متقدمة للإمبريالية العالمية على كل أدواتها لتتحول من حيث الحركة والأيديولوجيا إلى ركن من أركانها وتحت عنوان صهينة العالم، فأصبح هناك ترابط عضوي دون إلغاء التناقضات في إطار التحالف، هذا يعني أن النضال ضد الصهيونية ليس فلسطيني وعربي وإسلامي فحسب، وإنما أصبح ضرورة عالمية" (بتصرف عن د. إبراهيم علوش، اللوبي اليهودي وأمريكا: من يسيطر على من؟، مركز باحث للدراسات الفلسطينية والإستراتيجية).

وكما هو واضح، فإنَّ حرب الإبادة والتطهير العرقي التي تمارسها ركيزة الصهيونية العالمية إسرائيل في غزة قد أحدث صحوة عالمية وكشفت حقيقة الصهيونية المتحالفة مع أعتى وأشرس الإمبرياليات التي تمثلها الولايات المتحدة الأميركية، مما أدى لبدايات انتفاضة عالمية ضدها.

في واقع ما يحدث من حرب إبادة على قطاع غزة، يمكننا القول أن هناك عوامل جديدة ظهرت صعّبت هذه المرة على الأميركي تحريك العجلة التفاوضية، وهذه العوامل تتلخص في مسألة واحدة وهي مستقبل نتنياهو الشخصي والسياسي في ظل ترؤسه أكثر حكومة متطرفة ومتشددة في تاريخ دولة إسرائيل، بمعنى أن أي ضغط أميركي على نتنياهو سيقابله ضغط من قبل شركائه المتطرفين (سموتريتش وبن غفير) في الائتلاف، وحين يفاضل ذلك نتنياهو يجد أن مصلحته هي في ائتلافه وليس بما تُريد أميركا، خاصة أنه يعلم أنها لن تتخلى عن دولة إسرائيل إذا ما تعرض أمنها للخطر، فالسلاح والدعم الاقتصادي لم ينقطع ولن ينقطع، بل ستأتي أيضاً للدفاع عنها بأساطيلها وجيشها، وهي فعلت ذلك قديماً في حرب تشرين الأول (أكتوبر) حيث العديد من الطيارين الأمريكان شاركوا في المعركة بطائراتهم الأميركية، وفي السابع من تشرين الأول (أكتوبر) حضرت بقوة ولا تزال أساطيلها وجيشها منتشرة في البحرين الأبيض والأحمر، بل هي مُشتبكة مع الحوثيين في اليمن لأجل إسرائيل، هذا عدا عن قواعدها البالغ عددها 27 قاعدة والمنتشرة في الدول العربية وقبرص واليونان.

إذا العلاقة الأميركية – الإسرائيلية هي استراتيجية لا مكان فيها للتعارضات والخلافات بحيث تؤثر فيها وبما يؤدي لإتخاذ خطوات عملية ضاغطة وخطوات عقابية، ونلاحظ ذلك في دعوة نتنياهو لإلقاء خطاب في غرفتي مجلس الشيوخ ومجلس النواب، وهذا وحده يُشير بأن قدرة الإدارة الأميركية محكومة بإيقاع محدد بما يتعلق بوسائل الضغط على إسرائيل.

عليه، هناك قدرة أميركية للضغط، ولكن لا يوجد توجه لدى إدارة الرئيس جو بايدن للقيام بذلك، أما الإرادة فهي محكومة بضوابط من قبل اللوبي الصهيوني، إذاً الرهان على الموقف الأميركي في ظل طبيعة المشهد الحالي للنظام السياسي الإسرائيلي هو بغير ذي فائدة، لكن ديناميكية ذاك المشهد قد تؤدي لاحقاً لتغيير في التوجه الأميركي وفقاً لمتطلبات ذاك المشهد، خاصة بعد انسحاب حزب غانتس من حكومة الطوارىء وما يمكن أن ينتج عن ذلك من انقسام حاد في داخل المجتمع الإسرائيلي، ولكن التغير الحقيقي في المشهد الإسرائيلي يكون وفقاً لنموذج حرب عام 2006، أي استنجاد المؤسسة العسكرية والأمنية بالأميركي للقيام بصفقة تُعفيهما من الهزيمة والانهيار، وهنا أقول الانهيار لأن المشهد الإسرائيلي مُحاط بحلقة نار تستنزفه بقوة في أربع جبهات هي، الجبهة الرئيسية في قطاع غزة، جبهة الشمال مع لبنان، وجبهة الضفة الغربية وجبهة الحوثي في اليمن، هذا عدا عن جبهة العراق وسوريا والمستندة جميعها للدعم الإيراني غير المحدود.

وفقاً لذلك، دعونا نرى ما هي خيارات نتنياهو وكيف يستطيع الخروج من هذا المشهد بما يُبقي على وجوده الشخصي والسياسي، أو على العكس من ذلك بما يؤدي للقضاء عليه بشكل تام، لأن كل المُعطيات تؤدي لنقطة واحدة وهي إنتهاء وسقوط الملك نتنياهو، لذلك هو يتمسك بقوة باستمرار حرب الإبادة على قطاع غزة وتحت مبررات أسماها أهداف، الكل يعلم أنها غير قابلة للتحقيق، بل حتى شعار النصر المطلق هو شعار شعبوي لا مكان له بعد كل هذا الخراب الذي أحدثه جيش نتنياهو والذي أدى لوضع دولة إسرائيل في أسوأ الظروف على المستوى الدولي وعلى مستوى الرأي العام العالمي.

لقد استطاع نتنياهو خلال الثمانية شهور من حربه المستمرة أن يحقق التالي:

أولاً - إسرائيل تحاكم بتهمة شبهة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في محكمة العدل الدولية.

ثانياً - المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية يطلب من المحكمة إصدار قرار بإعتقال كلا من نتنياهو ووزير دفاعه غالانت.

ثالثاً - الأمم المتحدة تضع جيش نتنياهو على لائحة القائمة السوداء قاتلة الأطفال كالمنظمات الإرهابية داعش والقاعدة وبوكو حرام.

رابعاً - انسحاب حزب المعسكر الوطني (غانتس) مما سيعزز فقده للشرعية الداخلية والدولية ويؤدي لإنقسام حاد داخل المجتمع الإسرائيلي.

خامساً - قتل 16 أسير وهو يحاول عبر الضغط العسكري تحريرهم.

سادساً - الرأي العام خاصة في دول الغرب انقلب بشكل جذري ضد دولة الكيان وأصبحت القضية الفلسطينية عنوان للحرية وللعدالة الإنسانية.

سابعاً - اعتراف أربع دول من أوروبا بالدولة الفلسطينية في تطور لافت على عمق العزلة الإسرائيلية.

كل ذلك لم يؤدّ مطلقاً لأن يتراجع عن موقفه في الاستمرار في حرب الإبادة على شعبنا في قطاع غزة، بل على العكس ازداد عناداً وإصراراً على تحقيق ما أسماه "النصر الكامل"، إذا ما هي خياراته التي يعتقد هو أنها ستنقذه من حبل المشنقة في الداخل الإسرائيلي على ما أتى به لدولتهم، خاصة أنه يبحث عن تغيير هذا السجل الذي وصم فيه ويريد أن يأتي بسجل جديد ليتم تأريخه من قبل المؤرخين أساسه أنه جلب الإنتصار والأمن والإستقرار من جديد لدولة إسرائيل عبر ملحمة بطولية قادها الملك نتنياهو، طبعا هي أحلام وأمنيات، ولكن ما هي الخيارات:

الخيار الأول: تحقيق شعاره بالنصر الكامل من خلال القضاء مثلاً على قيادة القسام وحماس في غزة وبالذات يحيى السنوار ومحمد ضيف، والإفراج عن الأسرى والمحتجزين عبر الضغط العسكري، ويبدو هذا هو في باب الأمنيات.

الخيار الثاني: الذهاب لصفقة تبادل للأسرى وفق شروطه، أي بعدم وقف دائم لإطلاق النار مما يعطيه الوقت بدون ضغط لا داخلي ولا عبر الجبهات المساندة للقيام بمهمات قتالية مركزة تؤدي مهمة النصر الكامل وتحافظ على حكومته وتعزز وضعه في إستطلاعات الرأي وبالذات لدى جمهور اليمين.

الخيار الثالث: الهروب للأمام والقيام بعملية عسكرية جوية محدودة في جنوب لبنان وحتى نهر الليطاني، في محاولة منه لعدم دخول حرب شاملة (رهان خاسر) تؤدي لتدخل دولي ينتج عنه صفقات على مختلف الجبهات وتُعفيه من إبتزازات سموتريتش وبن غفير، وبالتالي يحافظ على ائتلافه الحاكم أو الذهاب لانتخابات مبكرة إذا ما حقق إنجازات تؤدي لعودة النازحين من الشمال والجنوب وتحرير الأسرى عبر صفقة تبادل للأسرى، والإبقاء على الإنقسام بين الضفة وغزة.

الخيار الرابع: الذهاب إلى صفقة تبادل للأسرى وفقا لرؤية الرئيس بايدن مع تعهدات أميركية بمنع قيام المقاومة في غزة بترميم قدراتها العسكرية وإيجاد بديل عن حركة حماس في حكم غزة بعيداً عن السلطة الفلسطينية، ولكن هذا الخيار يتطلب موافقة من سموتريتش وبن غفير وهذا غير ممكن.

الخيار الخامس: احتلال قطاع غزة ومحاصرته والإستمرار في الضغط على المقاومة بمعنى الدخول في حرب إستنزاف، لكن مشكلته ستكون مع جبهة الشمال التي هي مرتبطة بجبهة الجنوب، وبالتالي ستدخل إسرائيل في إستنزاف على مستوى كل الجبهات، وكما يبدو هذا هو المشهد القائم حالياً.

الخيار السادس: شراء الوقت عبر المناورات التفاوضية وحتى الذهاب لوقف إطلاق نار مؤقت، في رهان على مجيء صديقه السابق الرئيس دونالد ترامب مرة أخرى للبيت الأبيض، كي يشاركه حربه الإقليمية بشكل مباشر وبالذات مع المقاومة اللبنانية وفي مركزها حزب الله، وكما أعتقد فهو رهان لن يكون في محله، ولا أعتقد أن في وارد الرئيس ترامب بدء فترته الرئاسية إذا ما فاز في الإنتخابات بجر أميركا إلى حرب ستتعدى الإقليمية لتصبح عالمية.

كل خيارات نتيناهو صعبة ومعقدة وفيها ما سيؤدي لنبذ كامل ستتعرض له دولة "الكيان" وهي الآن على طريق ذلك، لكني أجد أن أقرب الممكن هو الخيار الثالث أي الهروب للأمام في حرب محدودة ولعدة ايام على الأكثر أسبوعين في جبهة الشمال تؤدي وفق اعتقاده لعقد صفقات تُبقي عليه في رئاسة الوزراء أو تذهب به لانتخابات مبكرة وتحت عنوان أنه حقق إنجازات سيسوق لها بقوة وتحت عنوان أنه جلب الأمن والإستقرار للكيان لعقود من الزمن، طبعاً هذه حساباته هو كما أعتقد، ولكن حسابات المقاومة لها مُنحنى مُختلف، لأنها قد تجد حربه المحدودة فرصة لإذلاله وتحجيمه على مستوى المنطقة ككل بحيث يكون وقف النار مرتبط بظهور جغرافيا فلسطين على المشهد بقوة، أي تحقيق إنجاز لافت وليس فقط هزيمته بمنعه من تحقيق أهدافه، خاصة في ظل مشهد النبذ والعزلة التي تعانيه إسرائيل منه على مستوى العالم.

لا زالت وستبقى غزة تتنفس، ونتنياهو يحترق ويختنق. والله غالب على أمره.