منذ بداية التاريخ، كان الإنسان يبحث عن الهيمنة والسيطرة، ومع تطور المدن وظهور الحدود، بدأت الحروب ترافق الإنسان في مسيرته، مخلفة وراءها دماراً وخراباً ومعاناة لا حصر لها.
مع تأسيس الدولة القومية الحديثة بعد صلح ويستفاليا عام 1648، اتخذت الحروب أبعاداً جديدة، وأصبحت جزءاً لا يتجزأ من التنافس بين الدول. ورغم تأثيرها الكبير على المجتمعات، والخسائر البشرية والاجتماعية والاقتصادية التي خلفتها، إلا أنها لم تتوقف، وكأن التاريخ نفسه يروي قصة لعبة شطرنج معقدة، تتناوب فيه الدول على تغيير مواقعها وبناء تحالفاتها، في ظل نظام توازن القوى الذي يتخذ أشكالاً مختلفة وفترات متعددة.
يدّعي أتباع كل نظام عالمي أنه يريد إشاعة الأمن والسلام العالميين، ولكن يبقى السؤال الأهم: من الذي حقق السلام أكثر في النظام العالمي؟ هل هو نظام ثنائي القطبية، أم متعدد القطبية، أم أحادي القطب؟
منذ تأسيس الدولة القومية بمفهومها الحديث، بدأت أوروبا بتشكيل نفسها بعد معاهدة ويستفاليا 1648، وكان النظام العالمي المهيمن في ذلك الوقت هو التعددية القطبية، التي كانت تهيمن عليها القوى الأوروبية العظمى (فرنسا، النمسا - المجر، بريطانيا، روسيا). وقد حدثت في ظل هذا النظام العديد من الحروب والصراعات، من أبرزها الحروب النابليونية، حرب القرم والبلقان، وتخللها الصراعات الدينية، ولكن أهم ما حدث كان الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، اللتان تعتبران أكثر الحروب تدميراً عبر التاريخ. وختامها كان نووياً عندما قصفت الولايات المتحدة اليابان بقنابل ذرية في نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تم إسقاط القنبلة الأولى على مدينة هيروشيما في 6 آب (أغسطس) 1945، تلتها قنبلة ثانية على مدينة ناغازاكي في 9 آب (أغسطس) 1945. وترجّح الإحصائيات أن الخسائر البشرية جراء الحربين الأولى والثانية بلغت 80 مليون شخص، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية والتدمير الهائل للحضارات. ويعود السبب في كثرة الصراعات والحروب إلى عدم استقرار النظام في ظل تعدد الأقطاب، ذلك لأن الدول القوية تكون متغيرة الأحلاف، وتبحث دائماً عن مصالح استعمارية متنافسة على حساب القوى الأخرى. علماً أن نظام تعدد الأقطاب انتهى عام 1945، بعدما استمر زهاء أربعة قرون، ليبدأ بعده نظام ثنائي القطبية.
ومع دخول القرن العشرين، اتخذت الأحداث منعطفاً جديداً، فقد تجلّت معركة القوى في الصراع الثنائي منذ 1945 حتى 1991، حيث قُسم العالم بين قوتين رئيسيتين، هيمن عليهما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأميركية. اتسم هذا النظام بصراع أيديولوجي وحروب بالوكالة، تخللتها العديد من النزاعات، لكن وجود نظام ردع نووي أدى إلى عدم اندلاع حرب مباشرة بين القطبين، وإن لم يمنعهما ذلك من نشر الحروب في مناطق نفوذهما، ومن أبرزها الحرب الكورية والفيتنامية وأزمة كوبا والحروب في أميركا اللاتينية وأميركا الوسطى، كذلك الحرب السوفيتية في أفغانستان، والصراعات في الغرب الأفريقي. وقد عُرفت هذه الفترة بالحرب الباردة، التي تقدر خسائرها البشرية جراء الحروب بالوكالة بنحو 7 ملايين إنسان بين مدني وعسكري، فضلاً عن انهيارات عظمى في البنى التحتية. لكن هذا الصراع الثنائي اتسم بالعنصرية ومحاولة نشر الأيديولوجيا بين الشيوعية والليبرالية، ولم يكن هناك أي مرونة في العلاقات الدولية آنذاك. وكان السلام في هذا النظام يتمثل في منع قيام حرب كبرى، لكنه في ذات الوقت لم يمنع قيام حروب ثانوية بالوكالة. وبما أن الصراع كان من أجل نشر الأيديولوجيا، فلم يكن هناك تعاون دولي، مما سبب العديد من الانقسامات.
إقرأ أيضاً: من الدبلوماسية إلى السوقية
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، دخل العالم مرحلة جديدة: الأحادية القطبية. أصبحت دولة واحدة مهيمنة على الساحة الدولية، غير أن هذا لم يأتِ دون تحديات. ففي هذه الحقبة (بعد 1991)، بدأت تظهر تدخلات عسكرية جديدة وحروب عصابات، خاصة في مناطق المشرق والمغرب العربي وأفغانستان والعراق. كما أن آخر الدراسات تشير إلى أن الربيع العربي هو أحد معالم الصراع في ظل النظام أحادي القطبية، وكذلك الحرب البيولوجية الحديثة (فيروس إيبولا، كورونا)، والحروب السيبرانية، التي تعدّ من نتاج الهيمنة الأميركية، بالإضافة إلى الحروب في منطقة الشرق الأوسط بين إسرائيل وقوى المقاومة، وحروب شرق أوروبا وآخرها الحرب الروسية - الأوكرانية. كما أن الصراعات لم تعد تقام على أسس تقليدية، بل أصبحت معقدة وتشمل نزاعات داخلية وانقسامات عرقية وطائفية. وهكذا، تحولت الحرب من كونها معركة بين دول إلى مواجهة بين جماعات داخلية تعكس صراعات متجذرة في الهوية والانتماء، مما زاد خطورة الموقف. وبالتالي، فإن هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على النظام أدت إلى خسائر بشرية واقتصادية هائلة، رغم أنها لم تتجاوز الأربعين عاماً! والسبب في ذلك يعود إلى عدم وجود رادع أمام قرارات أميركا، التي ترى مصلحتها فوق كل الاعتبارات الإنسانية في العالم.
إذن، من حقق السلام أكثر؟!
إقرأ أيضاً: الرهان على الفوضى
ليس هناك نظام عالمي يحقق السلام، بسبب الطبيعة البشرية التي تبحث دائماً عن السيطرة والكسب المادي ونشر الأفكار. لكن هناك نظام ربما هو أقل خطورة على دول العالم الثالث والدول المتوسطة. وحسب ما مرّ، فإن النظام متعدد الأقطاب هو أخطر أنواع الأنظمة، لأنه غير مستقر على المدى البعيد، ويثير العديد من الحروب العالمية المباشرة. أما النظام ثنائي القطبية، فهو نظام أكثر استقراراً، بسبب مرونة التفاهمات الدبلوماسية بين القطبين العالميين. أما النظام أحادي القطبية، فهو نظام غير مستقر، ينشر الفوضى في العالم، حيث إن بداية الحروب العظمى تبدأ من سعي الدولة أحادية القطبية نحو الهيمنة الكاملة، مما يدفع دولاً أخرى إلى تشكيل تحالفات لمواجهتها. وفي ظل هذا التطور في وقتنا الراهن، أعتقد أننا مقبلون على نظام أشبه بتعدد الأقطاب، وهو ما لن ترتضيه الدولة المهيمنة، مما يجعل قيام حرب عالمية ثالثة أمراً محتوماً. ومن المرجح أن من سيبدأها.. الصين.
التعليقات