جاء إعلان وقف إطلاق النار في غزة بعد ضغوط كبيرة على إسرائيل، التي عرقلت كافة المفاوضات السابقة للاستمرار في عدوانها على المدنيين، ما يؤكد مساعيها المدعومة من الولايات المتحدة بتدمير قطاع غزة بشكل كامل وتهجير الفلسطينيين وضم الأرض المحتلة لإسرائيل. ولكن صمود الغزاويين حال دون تنفيذ المخطط الإسرائيلي، ورضخ الكيان ووافق على وقف إطلاق النار بهدف الإفراج عن الرهائن، في ظل تعرض حكومة نتنياهو لضغوط كبيرة من الرأي العام في تل أبيب.

ويرى كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي أن هذا هو الوقت المناسب لكي يتصرف القادة الفلسطينيون والإسرائيليون بنضج ومسؤولية تجاه مواطنيهم. ويؤكدون أن حماس يجب أن تستمر في دفع الصفقة والمفاوضات لتسهيل إعادة إعمار غزة وتأمين إطلاق سراح أسراها، كما يجب على إسرائيل السماح باستمرار دخول المساعدات الإنسانية لضمان إطلاق سراح أسراها المحتجزين لدى حماس.

تصريحات المسؤولين في الاتحاد الأوروبي قد تبدو متوازنة، ولكن موقف الاتحاد من الصراع القائم كان ينبغي أن يكون له تأثير أكبر، خاصة أن غالبية الدول الأوروبية لها علاقات وطيدة مع إسرائيل. فلماذا تخاذلت تلك الدول عن التدخل للتأثير على الاحتلال لوقف العدوان؟ الإجابة على هذا السؤال تبدو واضحة، إذ إن دول الاتحاد الأوروبي تعلم جيدًا أن أوراق اللعبة في قبضة أميركا، ولذلك لا تمتلك أوروبا الشجاعة لمواجهة الولايات المتحدة أو وقف دعمها لإسرائيل بالأسلحة، خوفًا من رد فعل "ترامب"، الذي يتبع سياسة الترهيب في تصريحاته منذ بداية ولايته الثانية.

الانقسام بين دول الاتحاد الأوروبي
كانت دول الاتحاد الأوروبي منخرطة في الحرب بين روسيا وأوكرانيا، إلى أن جاءت عملية "طوفان الأقصى"، التي وجهت الأنظار الأوروبية صوب منطقة الشرق الأوسط "بؤرة الصراع" بين إسرائيل وحماس، ولكن أوروبا كان موقفها منحازًا بشكل واضح إلى إسرائيل، التي ترتبط بها بعلاقات وطيدة. ورأى الأوروبيون أن إسرائيل تدافع عن نفسها، رغم جرائم الإبادة التي ارتكبها الاحتلال بحق المدنيين، وصدرت بصددها قرارات من المحكمة الجنائية الدولية ضد دولة الاحتلال.

ولا شك أن الحرب بين إسرائيل وحماس أحدثت حالة من الانقسام بين دول الاتحاد الأوروبي، فهناك دول تعاطفت مع إسرائيل بعد أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر)، ورأت أن دولة الاحتلال هي الضحية، وأن رد الفعل غير المسبوق تجاه غزة أمر طبيعي، رغم أن القانون الدولي يفرض حماية المدنيين تحت أي ظروف. ولكن جيش الاحتلال ضرب بكافة القوانين عرض الحائط، ودمر الأخضر واليابس في قطاع غزة.

بالتأكيد أن بعض دول الاتحاد الأوروبي الكبرى كان لها دور في استمرار العدوان الغاشم على قطاع غزة، بعد التصويت في جلسات مجلس الأمن المتعاقبة برفض مشروع لوقف إطلاق النار في غزة، وهو ما تسبب في تفاقم الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، بعد تدخل حزب الله من جهة والحوثيين من جهة أخرى لمناصرة غزة.

حل سياسي
موقف الاتحاد الأوروبي المؤيد للعدوان الإسرائيلي زاد من حدة الكراهية، وأدى إلى اندلاع العديد من المظاهرات المؤيدة لغزة، وحدث انشقاق بين القادة، وجاء موقف الدول الأوروبية التي اعترفت بدولة فلسطين بمثابة ضربة قوية للدول الداعمة للكيان الإسرائيلي، فضلًا عن دعم بعض القادة الأوروبيين للمحكمة الجنائية الدولية، عقب صدور قرار اعتقال رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت.

ورغم ذلك، كانت هناك محاولات أوروبية إيجابية للتحرك خلال عام من الحرب، ويمكن رؤية ذلك من خلال موقف "جوزيب بوريل"، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، الذي قام بجولات عدة في الشرق الأوسط للقاء مسؤولين فلسطينيين وإسرائيليين، وكذلك المسؤولين في الدول المجاورة للصراع، في محاولة منه للتوصل إلى حل سياسي يمنع حدوث تصعيد من شأنه أن يجر المنطقة إلى حرب إقليمية. هذا بجانب المساعدات الإنسانية التي أعلن عنها الاتحاد الأوروبي لسكان القطاع، والتي قدرت بنحو ما يزيد على 290 مليون يورو كمساعدات إنسانية، مع التركيز على القطاعات المهمة مثل الغذاء والصحة والمياه والصرف الصحي والحماية، مع الأخذ في الاعتبار أن الاتحاد الأوروبي ودوله هم المانحون الأكبر لفلسطين.

وجاءت الرسالة التي وجهها كبار القادة الأوروبيين لحماس وإسرائيل بضرورة المضي قدمًا في استمرار وقف إطلاق النار لإطلاق سراح الرهائن من الجانبين، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة دون قيد أو شرط، بمثابة تحول جذري في الموقف الأوروبي تجاه الصراع بين إسرائيل وحماس، وهو انعكاس إيجابي نحو دعم أوروبا لمسار السلام في الشرق الأوسط.

الحقيقة أيضًا أن حركة حماس لا تدرك جيدًا عواقب انهيار الهدنة، وتمارس حربًا نفسية تجاه الاحتلال عن طريق تصوير مشاهد المحتجزين لديها بين الحين والآخر منذ عملية 7 تشرين الأول (أكتوبر)، بهدف إثارة الرأي العام الإسرائيلي على حكومة نتنياهو. ومن المؤكد أن تلويح حماس بوقف تسليم المحتجزين لإسرائيل قد يتسبب في العودة لنقطة الصفر، وانهيار مفاوضات المرحلة الثانية التي لم تبدأ بعد. ولكن جهود الوساطة المصرية القطرية نجحت في استمرار الهدنة، وبناء عليه أعلنت حماس أنها ستلتزم باتفاق تسليم المحتجزين الإسرائيليين.

إعمار غزة
ولا يخفى على أحد أن هدف إسرائيل الرئيسي هو تدمير حركة حماس بشكل كامل، وترى أن استمرار سيطرتها على قطاع غزة يمثل خطورة على أمنها، وهو ما يتخذه الاحتلال مبررًا لجرائم الإبادة الجماعية تجاه المدنيين. لذلك، تتعامل قيادات الحركة مع الوضع الراهن بما لا يخل أو ينتقص من نفوذ وسيطرة حماس على حكم غزة، دون النظر إلى عواقب تنفيذ التهديد الإسرائيلي باستئناف المعارك.

مطالبات دول الاتحاد الأوروبي لإسرائيل وحماس بالالتزام ببنود اتفاق الهدنة تؤكد تحرك المياه الراكدة في الموقف الأوروبي تجاه غزة، وهو ما يجب أن تستغله حماس جيدًا لكي تضمن دعم أوروبا لإعادة إعمار غزة، دون النظر إلى المصالح الشخصية للحركة، حتى وإن كان الثمن هو التنازل عن حكم غزة والانخراط مع السلطة الفلسطينية من جديد، لقطع الطريق أمام مساعي الاحتلال لتهجير سكان غزة وإنهاء القضية الفلسطينية باستيلاء إسرائيل على الأراضي المحتلة لصالحها.