لا تُعد ظاهرتا المبالغة والغلو، أو التلاعب بالحقائق وتزييفها، مجرد سمات عابرة في تاريخ الأنظمة والجماعات والأحزاب السياسية، بل هي سِمة بنيوية تلازم كيانات النخب السياسية والاجتماعية في منطقة الشرق الأوسط، وربما في معظم دول العالم الثالث. لكنَّ اللافت أنَّ هاتين الآفتين تجدان في العراق، منذ تأسيس الدولة الحديثة عام 1921، بيئة خصبة للتفشي والاستمرار، حتى غدتا جزءاً لا يتجزأ من الثقافة السياسية السائدة بل ومن البنية الاجتماعية والدينية والثقافية، مما دفع مراقبين دوليين ومحليين إلى التساؤل عن سببي هاتين الظاهرتين وتداعياتهما. والأخطر من ذلك أن ثقة الجهات الخارجية بمصادر المعلومات العراقية، سواءً أكانت رسمية أم غير رسمية، قد تآكلت بشكل ملحوظ بسبب تنامي ثقافة التضليل واختلاق الروايات أو الإنكار وتكذيب الحقائق والوقائع، ما أدى إلى تجاهل تقارير عديدة أو التشكيك في مصداقيتها.
ومن أبرز القضايا التي طالها التشويه والتباين الحاد في الروايات، قضية إحصاء ضحايا الإرهاب والعمليات العسكرية في العراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. ففيما ذهبت بعض الأصوات إلى تضخيم الأرقام لتبلغ الملايين، كجزء من خطاب درامي وطائفي يهدف إلى استقطاب التعاطف الدولي والطائفي أو تعزيز شرعية سياسية معينة...؛ سقطت أصوات أخرى في فخ التهوين المبالغ فيه، حيث قدّمت أرقاماً هزيلة تتعارض مع الوقائع الميدانية وتقارير المنظمات الحقوقية المُحايدة. وهذا التباين الشاسع، بين التضخيم والتقزيم، لم يُثر حيرة المراقبين فحسب، بل حوّل القضية الإنسانية إلى ساحة للصراعات الأيديولوجية، فطُمس معها مبدأ البحث الموضوعي عن الحقيقة، وفُقدت الثقة في أي رواية مهما كان مصدرها.
إقرأ أيضاً: جرائم الاحتلال العثماني واستمرارية الاستبداد في العراق
ولا يقتصر الأمر على الجانب الإحصائي، بل يتعداه إلى تشكيل رواية تاريخية مشوهة تخدم أجندات ضيقة. فمن ناحية، تُستخدم المبالغة كأداة لخلق سردية الضحية الدائمة، التي تُبرر الفشل أو تُحيله إلى مؤامرة خارجية. ومن ناحية أخرى، يُستخدم إخفاء الحقائق لتلميع صورة جهات معينة أو لطمس مسؤولياتها عن الأزمات والجرائم والمجازر. وهكذا تتحول المعرفة إلى سلعة قابلة للتشكيل وفق الهوى، وتغيب المعايير الأخلاقية والأسس الموضوعية في تناول قضايا الشأن العام.
إنَّ معالجة هذه الإشكالية تتطلب، قبل كل شيء، تفكيك البنى الثقافية والسياسية التي تغذي ثقافة الإنكار والتضليل أو الغلو والمبالغة، وبناء مؤسسات تحفظ التوثيق الدقيق بعيداً عن التأثيرات الحزبية، وتشجيع الخطاب النقدي القائم على الشفافية. فبدون مصالحة مع الحقيقة، تظل السرديات المتنافسة وقوداً للصراع، وعائقاً أمام أي محاولة جادة للإصلاح ولقول الحق والحقيقة.
ومما ذكر بهذا الصدد، إحصائية للناشط مصطفى نعمان السوداني، قال فيها: "بلغ عدد الشهداء المدنيين في العراق فقط منذُ 2003 إلى 2018 إلى أكثر من (205,273) مدنياً وتشمل هذه الإحصائية فقط الجثة الكاملة حيث لم يُحتسب المفقودون والذين لم يتبق من جثثهم شيء بسبب المفخخات. وأيضًا من عام 2003 إلى عام 2006 قام الإرهابيون بتفجير أكثر من 580 سيارة مفخخة يقودها انتحاري في العراق وكانت النسبة الأكبر في محافظة بغداد حيث بلغت أكثر من 450 سيارة مفخخة...".
إقرأ أيضاً: بذور الصراع النفسي وأثرها في تشكيل الهوية
بينما نشر موقع المجلة من لندن تقريراً عن منظمة ضحايا حرب العراق جاء فيه: "بين آذار (مارس) 2003 وكانون الثاني (يناير) 2023، تفاوت عدد القتلى المدنيين العراقيين منذ غزو العراق وما تلاه بشكل كبير، ليعكس مختلف الاضطرابات الأمنية التي شهدتها البلاد في مراحل عدة على مدى العقدين المنصرمين. فقد بلغ العدد الإجمالي للضحايا المدنيين 210 آلاف و38 ضحية على مدى 20 عاماً. وسجل عدد الوفيات المدنية الموثقة في العراق ذروته في عام 2006 عند 29,526 ضحية، فيما بلغ أدنى مستوى له في عام 2022 حيث سجل 740 ضحية، بحسب 'منظمة ضحايا حرب العراق'".
وقد صرّح مدير مديرية شؤون الشهداء والجرحى في وزارة الداخلية - في وقت سابق -، زامل الساعدي، لوكالة الأنباء العراقية (واع)، إن "عدد شهداء الوزارة منذ العام 2003 وحتى الآن - عام 2022 - بلغ 29,300 شهيد، أما عدد الجرحى فقد بلغ 45,000 جريح"، مشيراً إلى أن "إصابات الجرحى تقسم إلى عدة أقسام، شديدة ومتوسطة وخفيفة".
التعليقات