سمعنا من قبل عن نظرية "السلام بالقوة" التي طرحها الرئيس الأميركي دونالد ترامب حال تنصيبه في ولايته الثانية، كأحد عناوين البلطجة الجديدة في السياسة العالمية. واليوم، نسمع عن محاولة تجميل صورة الحكومة العراقية بالقوة أيضًا. فقد أصدرت وزارة الداخلية العراقية قرارًا يقضي بمنع التظاهرات خلال فترة انعقاد "القمة العربية"، بذريعة الحفاظ على الأمن والنظام العام. ويُعد هذا القرار، في ظاهره، انتهاكًا صارخًا لحق المواطنين في التعبير والتظاهر السلمي، لكنه في جوهره يعكس عمق الأزمة السياسية والاجتماعية البنيوية، ليس على مستوى الحكومة العراقية فحسب، بل على مستوى النظام السياسي القائم بأكمله.
ويبدو أنَّ الحكومة العراقية ما تزال تعيش في عقود القرن الماضي، حيث تعتقد أنه ما زال بالإمكان ممارسة التعتيم الإعلامي وطمس الحقائق وتزييف الواقع وتضليل الرأي العام المحلي والدولي بشأن ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكذلك حال الحريات وحقوق الإنسان في المجتمع العراقي. وحيث تتوهّم الحكومة أن حجب الحقيقة يمكن أن يجمّل صورة العراق أمام الرأي العام الإقليمي والدولي.
إن القرار السياسي الذي يقف خلف منع التظاهرات خلال انعقاد القمة العربية، يكشف عن محاولة واضحة لتسويق صورة محمد شياع السوداني وحكومته أمام جامعة الدول العربية، على أمل أن يحظى بدعمها السياسي واعترافها وأعضائها بأي حكومة يسعى إلى تشكيلها بعد الانتخابات. كما يسعى من خلال هذه الخطوة إلى تحقيق مكاسب انتخابية داخلية، عبر إظهار نفسه كقائد يحظى بقبول إقليمي، وإلى كسب ثقة الشركات الرأسمالية وتشجيعها على الاستثمار في العراق، بالرغم من الواقع المضطرب الذي تحاول حكومته تغطيته بستار من الإنكار الإعلامي والبهرجة السياسية.
إقرأ أيضاً: هل من ضرورة "الحق يُقال" في العراق العظيم!*
وكما حدث في تجارب الأنظمة العسكرية التي جاءت إلى السلطة عبر الانقلابات خلال النصف الثاني من القرن الماضي، في ما يُعرف بدول "المخروط الجنوبي" أو بلدان أميركا اللاتينية، فقد شهدنا على سبيل المثال، وليس الحصر، تنظيم كأس العالم في الأرجنتين عام 1978، في وقت كانت البلاد تخضع لحكم عسكري جاء بانقلاب دموي، تخلله تنفيذ سلسلة من الإعدامات والاعتقالات ضد المعارضين اليساريين واختفى قسرًا أكثر من 30 ألف شخص، معظمهم من النشطاء اليساريين أو المعارضين السياسيين، وجرى تعذيب واحتجاز آلاف المعتقلين في مراكز سرية، وفرضت رقابة مشددة على الإعلام والمجتمع المدني. كان تنظيم كأس العالم، بدعم مباشر من الإدارة الأميركية آنذاك، جزءًا من محاولة مدروسة لتعزيز النزعة القومية في الأرجنتين عبر كرة القدم من جهة، ومن جهة أخرى لتجميل صورة النظام العسكري القمعي أمام العالم، وإعادة تأهيله سياسيًا، بعد أن شوهته جرائمه وانتهاكاته الجسيمة لحقوق الإنسان. وقد أنفقت الحكومة مبالغ ضخمة على البنية التحتية والمنشآت، في حين كانت البلاد غارقة في القمع والفقر والاختفاءات، مثلما يحدث اليوم بالإعداد لمؤتمر القمة العربية في بغداد. أنظر "عقيدة الصدمة" لنعومي كلاين).
قد يتساءل البعض: ألا تبالي حكومة السوداني بصورة "الديمقراطية" في العراق، أو بصورة حكومته أمام العالم، عندما تتخذ مثل هذه القرارات القمعية؟ والجواب لا يحتاج إلى كثير من الجهد؛ فـ"الديمقراطية"، إذا ما عُرِّفت بمفهومها الغربي، لا تعني شيئًا لا لحكومة السوداني، ولا لجامعة الدول العربية وأعضائها، ولا حتى للشركات الرأسمالية وممثليها السياسيين في العالم. ما يهم هذه الأطراف حقًا هو وجود حكومة قادرة على السيطرة على الأوضاع السياسية بـ"الحديد والنار"، وتوفير بيئة آمنة وجذابة للاستثمار الرأسمالي في منطقتنا. ومتى ما تحققت هذه الشروط، يُمنح لتلك الحكومة الدعم الإعلامي والسياسي، بل وحتى المالي، بلا تردّد.
إنَّ مكانة العراق في التقسيم العالمي للإنتاج الرأسمالي تتركّز في صناعة النفط، وعلى هوامش هذه الصناعة قد تُقام بعض المشاريع أو الصناعات التي تكمّل هذا الدور، لكنها في جوهرها تصب في خدمة سلسلة الإنتاج الرأسمالي العالمي، وتذهب الغالبية العظمى من أرباحها إلى جيوب الشركات الرأسمالية العابرة للقارات، الدول الإمبريالية التي تهيمن على الاقتصاد العالمي. أما الحصة التي تُمنح لتابعيها في العراق، والتي تمثّلها فعليًا حكومة السوداني وأطراف العملية السياسية، فلا يهم من أين تأتي أو كيف تُوزع. أي بعبارة أخرى، لا يكون لهذه الشركات من وسيلة لضمان استمرار أرباحها سوى عبر فرض شروط عمل قاسية على العمال، وتكريس مناخ من قمع الحريات، بهدف منع أي مطالب بالعدالة الاجتماعية أو تحسين مستوى المعيشة، لأن أي تحسّن في رفاهية العمال يعني اقتطاعًا من أرباح تلك الشركات، وهو ما تسعى بكل الوسائل إلى منعه.
إقرأ أيضاً: "معاوية" يكشف عن الهشاشة الفكرية والسياسية للطائفيين في العراق
ولا يمكن مقارنة الوضع في العراق بما هو عليه في الدول الغربية، حيث تشهد تلك البلدان، على سبيل المثال، خلال اجتماعات مجموعة الدول الصناعية السبع (G7) أو قمم حلف الناتو، تظاهرات واسعة، واعتراضات جماهيرية، واشتباكات عنيفة مع قوات الشرطة، دون أن يُنظر إليها كتهديد للاستقرار أو مبرر لقمع الحريات.
لكن بالرغم من ذلك، لا تُعد هذه التظاهرات تهديدًا حقيقيًا لاستقرار تلك الأنظمة، لأنها تقوم على مؤسسات راسخة ودول ذات هوية سياسية واضحة، وضربت جذورها في المجتمع عبر قرون. ولكن في العراق، فحتى هذه اللحظة، لا توجد “دولة” بالمعنى السياسي والمؤسسي الكامل، ولا هوية سياسية متفق عليها.
إن جميع القوانين والقرارات التي تصدر في عهد حكومة السوداني ليست سوى محاولات لحسم مصير الدولة وهويتها السياسية، وهي محاولات لا تزال تتخبط في مهب الريح، بفعل التحولات العميقة التي تضرب منطقة الشرق الأوسط.
وبناءً على ذلك، لا حكومة السوداني، ولا الحكومات السابقة أو القادمة، قادرة على تحمل تظاهرات من النوع الذي نشهده في ما يُسمى بالدول الديمقراطية. ولهذا السبب، تسعى هذه الحكومة إلى توجيه ضربات استباقية لأي حركة احتجاجية جماهيرية قد تُحدث هزة إضافية لصورتها المهزوزة أصلًا أمام المجتمع الدولي.
إقرأ أيضاً: الجولاني يمزق القناع الذي يختبئ خلفه أحمد الشرع
إنَّ صوت العاطلين عن العمل، والمحرومين، والناقمين على منظومة الفساد والمحاصصة والطائفية، لن يُسكت بقرارات أمنية مؤقتة. بل سيظل يرتفع، مهما حاولت السلطة خنقه أو تجاهله، لأن الحق في الحياة الكريمة والعمل والكرامة الإنسانية لا يخضع لمزاج القمم أو حسابات الدعاية الرسمية.
ما يحتاجه العراق ليس تلميعًا زائفًا لصورة النظام، بل تغييرًا جذريًا للواقع السياسي والاجتماعي الذي أنتج كل هذا الخراب. ولن يكون ذلك إلا من خلال تمكين الجماهير من التعبير عن نفسها بحرية، وفرض التغيير بإرادتها، لا بخطب المؤتمرات وقرارات المنع. فالف قمة عربية ومؤتمر إقليمي ودولي يقام في العراق أو يشارك حكومته فيه، لن يغير من صورة حقيقة النظام السياسي الحاكم في العراق القائم على منظومة الفساد والتضليل والقمع والتمييز بكل أشكاله الديني والطائفي والجنسي.
التعليقات