في خطوة قد تعيد تشكيل ملامح ممرات الشحن في المياه الدولية المتعلقة بالجغرافيا الاقتصادية البحرية، أعلنت الولايات المتحدة عن اتفاق لوقف الهجمات الحوثية على السفن التجارية في البحر الأحمر، بوساطة عمانية، دون التشاور أو الاتفاق، لا بل دون تقديم أي معلومات للحليفة الموثوقة، حبيبة أميركا، إسرائيل. وكان أغرب تصريح بخصوص انفراد أميركا وعدم إشراك إسرائيل في الاتفاق مع الحوثيين هو تصريح السفير الأميركي في إسرائيل نفسها مايك هاكابي، الذي قال: "الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى إذن من إسرائيل لترتيب أي اتفاق يمنع الحوثيين من استهداف سفننا".
ولكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي رفع شعار (أميركا أولاً)، ثم شعار (أنا أحكم العالم)، لم يترك الأمر يمر باتجاه التوازن الإنساني الذي يحفظ للطرفين الكرامة وماء الوجه، فصرّح تصريحاً استفزازياً للحوثيين من نظرة فوقية متعالية تضع أميركا فوق الجميع، فقال بشكل عنجهي: "لقد استسلموا". ولكن هناك مؤشرات تؤكد بوضوح أنَّ الحوثيين لم يستسلموا، وأنه ناقض الواقع بهذا التصريح، فهناك وساطة عمانية بين الطرفين قرّبت وجهات النظر بينهما وفق ما تستدعيه مصلحة كل طرف. من هنا، ليس هناك أي استسلام من قبل جماعة أنصار الله، وإنما فرضت نفسها نداً لأميركا بواسطة طرف ثالث، وهو سلطنة عُمان.
الحوثيون لم يذهبوا إلى البحر، ولم يصعدوا على ظهر باخرة أميركية ويوقعوا على وثيقة استسلام دون قيد أو شرط كما فعل اليابانيون في الحرب العالمية الثانية بعد ضرب أميركا لليابان بقنبلتي هيروشيما ونكازاكي، فهم ما زالوا يشكلون خطراً على ممرات الشحن البحرية، وبإمكانهم أن يعاودوا توجيه الضربات للسفن الأميركية بقوة واقتدار. لذلك فإنَّ الخطر الحوثي ما زال ماثلاً على السفن الحربية الأميركية والتجارية التي تحمل البضائع والسلع والأسلحة والذخائر إلى إسرائيل في البحر الأحمر وفي باب المندب.
إنَّ الواقع الدولي والإقليمي الراهن يؤكد أنَّ الولايات المتحدة هي التي استسلمت. فهي لديها في البحار والمياه الدولية القريبة من اليمن حاملات طائرات وغواصات وسفن عسكرية كثيرة، فضلاً عن أسطول تجاري بحري ضخم من السفن، كلها تقوم بخدمة الاقتصاد الأميركي على الصعيد التجاري في الاستيراد والتصدير وتأمين الطرق البحرية لها، وإبعاد شبح الخطر عنها حاجة ملحة وضرورة اقتصادية مهمة للمصالح الأميركية ومصالح الدول التي تتعامل معها.
ويمكن القول أيضاً إنَّ الذي استسلم هو من ترك مصالح حليفه في إطار ممرات الشحن المائية الخاصة بالجغرافيا الاقتصادية البحرية إلى مصير مجهول على يد الصواريخ والمسيرات الحوثية. ولقد عبّر عن ذلك، وبخيبة أمل بحليفته أميركا، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بتصريح قال فيه: "إنَّ هناك قاعدة واحدة تُرشدني، ستدافع إسرائيل عن نفسها في كل مكان ضد أي تهديد بمفردها".
هذا علاوة على رأي الشارع الإسرائيلي، الذي بات اليوم يمثل الرأي العام في أي بلد، فقد عبّر عن امتعاضه ورفضه للخطوة الأميركية في إبرام اتفاقية أحادية مع الحوثيين وعزل إسرائيل عنها وعدم التنسيق معها بشأنها.
كما اعتبرت وسائل إعلام إسرائيلية أنَّ قرار الرئيس الأميركي بوقف الضربات العسكرية الجوية والبحرية الأميركية على الحوثيين وغياب التنسيق مع إسرائيل والتعاون معها يمكن اعتباره بمثابة التخلي عن إسرائيل وعدم الاعتماد عليها كحليف استراتيجي وشريك قوي في تشكيل ورسم خارطة شرق أوسط جديد.
ويؤكد ويعزز القول أنَّ المستسلم في الصراع بين أميركا والحوثيين هو أميركا، مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند، الذي قال: هذا انتصار كبير للحوثيين، فواشنطن تراجعت عن مواجهة تنظيم إرهابي، بحسب تعبيره المنحاز.
فالحوثيون ليسوا بتنظيم إرهابي، وإنما فصيل ثوري مسلح، قرروا دعم وإسناد إخوتهم في قطاع غزة والضفة الغربية، واشترطوا في إيقاف استهدافهم لإسرائيل أن توقف إسرائيل حرب الإبادة التي تمارسها ضدهم. والإرهاب ليس له هدف، وليس له مبادئ وقيم، فهو يقتل الناس بسبب عداوته للحياة الإنسانية بشكل عام، ولهذا السبب لا يتوقف عند حد معين، كما تفعل إسرائيل في غزة اليوم في حرب الإبادة التي تشنها ضدها منذ 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
التعليقات