تشهد القضية الفلسطينية في عقدها الثامن منعطفاً دبلوماسياً بالغ التعقيد، حيث تتشابك خيوط الدبلوماسية العربية الجديدة مع متطلبات الواقع السياسي المعاصر، فتتأرجح الأنظمة العربية بين وفائها التاريخي للقضية المركزية ومقتضيات مصالحها الوطنية الآنية، في ظل معادلة إقليمية ودولية معقدة تحكمها اعتبارات جيوسياسية واقتصادية لا تقلّ أهمية عن الاعتبارات القيمية والأخلاقية. فلقد أضحت الدبلوماسية العربية تجاه فلسطين كالبندول الذي يتأرجح بين قطبي الثبات والتغيير، محكومة بضغوط متعددة المصادر تتراوح بين الضغوط الشعبية الداخلية والإملاءات الجيوستراتيجية الخارجية، مما يجعل فهم هذه الدينامية أمراً بالغ الأهمية لاستشراف مستقبل المنطقة.
إنَّ التحولات التي شهدتها المنطقة منذ توقيع اتفاقات أبراهام عام 2020 قد أعادت تشكيل خريطة التحالفات الإقليمية بصورة جذرية، فبينما كانت المبادرة العربية للسلام لعام 2002 تمثل إجماعاً عربياً حول ربط التطبيع مع إسرائيل بحل شامل للقضية الفلسطينية، نجد أنَّ اتفاقات أبراهام قد كسرت هذا التوافق وفتحت الباب أمام تطبيع منفرد يتجاوز الشرطية الفلسطينية، مما خلق حالة من التفكك في الموقف العربي الموحد. هذا التفكك لم يكن وليد اللحظة، بل كان نتاجاً لتراكمات تاريخية بدأت مع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، التي شكلت أول صدع في الجبهة العربية الموحدة، ثم تعمقت مع اتفاقية وادي عربة الأردنية الإسرائيلية عام 1994، وصولاً إلى المرحلة الراهنة التي تشهد تطبيعاً خليجياً وعربياً متعدد المسارات.
لكنَّ أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 قد أحدثت زلزالاً في هذه المعادلة، فبينما كانت المملكة العربية السعودية على وشك الانضمام إلى قائمة الدول المطبعة مع إسرائيل، جاءت هجمات حماس لتقلب الطاولة رأساً على عقب وتعيد القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام الإقليمي والدولي. فالمملكة التي كانت تسعى للتوازن بين مطامحها الاقتصادية ضمن رؤية 2030 وبين الضغوط الشعبية المؤيدة للقضية الفلسطينية، وجدت نفسها مضطرة لتجميد محادثات التطبيع والعودة إلى الخطاب التقليدي المؤيد للقضية الفلسطينية، لكن هذه العودة لم تكن انقلاباً كاملاً في السياسة بقدر ما كانت تكتيكاً مرحلياً للتعامل مع الضغوط الداخلية والإقليمية.
إنَّ الدبلوماسية العربية الجديدة تتسم بطابع ثنائي معقد، فهي من جهة تحاول الحفاظ على الثوابت التاريخية للقضية الفلسطينية، ومن جهة أخرى تسعى لاستيعاب المتغيرات الجيوسياسية الجديدة التي تحكمها اعتبارات الأمن القومي والمصالح الاقتصادية والتنافس الإقليمي مع إيران. فدول مجلس التعاون الخليجي، التي كانت تنظر إلى إيران باعتبارها التهديد الأساسي لأمنها القومي، وجدت في التحالف مع إسرائيل ضماناً أمنياً واستراتيجياً، خاصة في ظل الدعم الأميركي لهذا التوجه، لكنَّ الحرب في غزة أظهرت هشاشة هذه المعادلة وكشفت عن تناقضاتها الداخلية.
أما الولايات المتحدة الأميركية، فلقد لعبت دوراً محورياً في إعادة تشكيل الدبلوماسية العربية تجاه فلسطين، فالإدارات الأميركية المتعاقبة، وإن اختلفت في تكتيكاتها، اتفقت على هدف استراتيجي واحد هو تهميش القضية الفلسطينية والتركيز على بناء تحالفات إقليمية مضادة لإيران. إنَّ المقارنة بين نهج إدارة جو بايدن وإدارة دونالد ترامب تكشف عن اختلافات في الأسلوب وليس في الجوهر، فبينما فضل ترامب النهج المباشر والصريح في دعم إسرائيل والضغط على الفلسطينيين، اتبع بايدن نهجاً أكثر دبلوماسية لكنه لم يختلف في النتائج العملية. واليوم، مع عودة ترامب للرئاسة، نشهد محاولة لإحياء مشروع تهجير الفلسطينيين من غزة، وهو ما قوبل برفض عربي قاطع تجسد في القمة العربية الاستثنائية في القاهرة في آذار (مارس) 2025.
إنَّ المبادرة المصرية لإعادة إعمار غزة، التي تبنتها القمة العربية، تمثل محاولة عربية لاستعادة زمام المبادرة في تحديد مستقبل القضية الفلسطينية. هذه المبادرة، التي تقدر تكلفتها بـ53 مليار دولار وتهدف لإعادة إعمار غزة بحلول 2030، تعكس رغبة عربية في تقديم بديل حقيقي للمخططات الأميركية-الإسرائيلية التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر التهجير والتوطين. لكن نجاح هذه المبادرة يبقى رهين توافر الإرادة السياسية الحقيقية للتنفيذ، وهو ما يتطلب تجاوز التناقضات الداخلية في المواقف العربية والتوصل إلى توافق حقيقي حول الأولويات والآليات.
إنَّ الدول العربية تجد نفسها اليوم أمام معضلة حقيقية، فالتمسك بالثوابت التاريخية للقضية الفلسطينية قد يؤدي إلى عزلتها عن التطورات الإقليمية والدولية، بينما الانجراف نحو التطبيع الكامل قد يؤدي إلى فقدان مصداقيتها الشعبية والتاريخية. هذا التوتر بين الواقعية السياسية والمثالية القيمية يتجلى بوضوح في سلوكيات دول مثل الإمارات والبحرين، اللتين تحاولان التوفيق بين التزاماتهما في اتفاقات أبراهام وبين الضغوط الشعبية المتزايدة المؤيدة للقضية الفلسطينية. فالتجارة بين هذه الدول وإسرائيل تستمر في النمو بالرغم من الحرب في غزة، مما يكشف عن عمق التشابك الاقتصادي الذي تحقق خلال السنوات الماضية.
إنَّ إسرائيل، من جهتها، تدرك تماماً التعقيدات التي تواجه الدبلوماسية العربية، ولذلك فهي تتبع استراتيجية متدرجة تهدف إلى ترسيخ المكاسب المحققة من التطبيع مع بعض الدول العربية، مع السعي لتوسيع دائرة التطبيع تدريجياً. إن إعلان إسرائيل الأخير عن بناء 22 مستوطنة جديدة في الضفة الغربية يمثل رسالة واضحة مفادها أن إسرائيل لا تعتزم تقديم تنازلات حقيقية للفلسطينيين، بل تراهن على أن الزمن يعمل لصالحها وأن الضغوط الاقتصادية والسياسية ستدفع المزيد من الدول العربية نحو التطبيع.
إنَّ المستقبل يحمل سيناريوهات متعددة لتطور الدبلوماسية العربية تجاه القضية الفلسطينية، فالسيناريو الأول يقوم على تعميق الانقسام العربي وتوسع دائرة التطبيع، مما قد يؤدي إلى تهميش نهائي للقضية الفلسطينية وتحولها إلى قضية محلية فلسطينية بحتة. أما السيناريو الثاني فيتمثل في إعادة توحيد الصف العربي حول القضية الفلسطينية، استناداً إلى الدروس المستفادة من حرب غزة والتأكيد على أن استقرار المنطقة مرتبط بحل عادل للقضية الفلسطينية. والسيناريو الثالث، والأكثر واقعية، يقوم على استمرار التأرجح والازدواجية في المواقف العربية، حيث تحافظ كل دولة على خطابها المؤيد للقضية الفلسطينية ظاهرياً، بينما تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة عملياً، وهو ما قد يؤدي إلى تعميق أزمة المصداقية في الدبلوماسية العربية.
إنَّ الدبلوماسية العربية الجديدة تحتاج إلى إعادة تعريف جذرية لأولوياتها ومبادئها، فالتحدي الحقيقي لا يكمن في التوفيق بين المصالح والمبادئ فحسب، بل في إيجاد صيغة جديدة للعمل العربي المشترك تأخذ في الاعتبار تعقيدات العصر ومتطلباته. إن المؤتمر الدولي المزمع عقده في حزيران (يونيو) 2025 تحت الرعاية السعودية-الفرنسية لبحث الحل ذي الدولتين قد يشكل فرصة أخيرة لإعادة إحياء الدبلوماسية العربية الجماعية، شريطة أن تتوفر الإرادة السياسية الحقيقية للخروج من دائرة الخطابات الجوفاء إلى فضاء العمل الجدي والمؤثر. فالتاريخ لن يرحم من يفرط في القضايا الجوهرية لأمته تحت ذرائع المصلحة الآنية، والمستقبل سيحاسب على ما يُبنى اليوم من أسس ومواقف.
التعليقات