في أعقاب انتهاء الحرب (العراقية–الإيرانية) عام 1988 دخلت إيران مرحلة جديدة من إعادة الترميم الداخلي بقيادة الرئيس علي أكبر هاشمي رفسنجاني (1989–1997) الذي تبنّى سياسة “البناء والإعمار” لإخراج البلاد من آثار الحرب الطويلة . غير أن هذه المرحلة تزامنت مع تحولات إقليمية كبرى أبرزها انعقاد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 الذي أسّس لأول مسار تفاوضي (عربي–إسرائيلي) برعاية أمريكية مباشرة . استُبعدت إيران من الدعوة إلى المؤتمر في دلالة على سعي واشنطن إلى رسم خريطة إقليمية جديدة تستبعد القوى التي لا تنسجم وفكرة الحلول الدبلوماسية للصراع ليس من باب القيمة المضافة انما لتحقيق تطلعاتها نحو مد النفوذ ، وهو ما اعتبرته طهران محاولة لتهميش دورها الإقليمي وإقصائها عن تحديد مستقبل القضية الفلسطينية .

هذا الاستبعاد شكّل عاملًا سياسيًا ومعنويًا مؤثرًا داخل البيئة الفلسطينية إذ عمّق قناعة فصائل المقاومة وخاصة حركة حماس التي كانت قد تأسست عام 1987 بأن التسوية السياسية لا تعبّر عن الإجماع الوطني الفلسطيني ، بل تستجيب لتوازنات خارجية . ومن هنا بدأ داخل الحركة اتجاهٌ نحو تعزيز الخيار العسكري بوصفه الرد العملي على مسار التسوية لتتأسس لاحقًا كتائب عز الدين القسّام عام 1991 كذراع مقاوم يعبّر عن رفض الحلول السياسية وعن استمرارية الصراع كأداة لرفض مشروع حل الدولتين .

ومع بلورة هذا الاتجاه دخلت إيران تدريجيًا على خط دعم كتائب القسّام ماليًا وتدريبيًا ولوجستيًا، في إطار ردّ استراتيجي على عزلها عن مفاوضات مدريد ، فقد رأت طهران أن دعم الخيار العسكري الفلسطيني يمثّل وسيلة لإعادة إدخال نفسها في المعادلة الإقليمية من بوابة الصراع (العربي–الإسرائيلي) ، بعدما استُبعدت دبلوماسيًا من مسار التسوية . بهذا المعنى: تحوّل الدعم الإيراني للقسام إلى نكاية سياسية وجيوسياسية عبّرت من خلالها طهران عن رفضها لترتيبات ما بعد الحرب الباردة ، وسعت إلى تكوين شبكة نفوذ ميداني مضاد للنظام الإقليمي الذي آمن بالحلول الدبلوماسية للقضية .

ومع مرور الوقت أصبح هذا التقاطع بين الخيار الإيراني الانتقامي من العزلة وخيار حماس وبقية فصائل "المقاومة" المستجيب للمصلحة الإيرانية الرافض للتسوية نواةً لما بات يُعرف لاحقًا ”بمحور المقاومة”، الذي تشكّل بصورة أوضح بعد عام 2000 مع تصاعد أدوار حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي . لقد مثّل استبعاد إيران من مؤتمر مدريد لحظة تأسيسية لمحورٍ بديلٍ يقوم على معادلة المقاومة بدل التسوية ، والدعم الميداني بدل الاعتراف السياسي . ومن خلال هذا المسار أعادت طهران تعريف دورها الإقليمي عبر الاستثمار في حركات المقاومة ، بينما أصبحت كتائب القسّام التجسيد الميداني لهذا التحوّل بوصفها الذراع العسكري لحماس تأسست في بيئة رفض سياسي ، وتطوّرت في ظل رعاية استراتيجية إيرانية هدفت إلى كسر منطق العزلة واستعادة النفوذ من خارج مسار الدبلوماسية التقليدية .

وما يُلاحظ أنّ الموقف الأمريكي نفسه تكرّر لاحقًا في مؤتمر شرم الشيخ ، حين تجاهلت واشنطن مجددًا فكرة إدماج إيران في منظومة سياسية إقليمية متوازنة من شأنها أن تضعها على المحك مجدداً لتشجيع حماس على الانخراط في المرحلة التالية من خطة وقف الحرب في غزة ، لكنها اكتفت بتعزيز أطر السلام التقليدية القائمة على استبعاد القوى المعارضة . ومع ذلك كان بالإمكان من منظور استراتيجي ابتكار صيغة تشاركية تمنح إيران دورًا محفّزًا لا مخرّبًا في مشروع السلام عبر توظيف نفوذها على حركات المقاومة لضمان استقرار تدريجي واحتواء الصراع غير أن استمرار النهج الأمريكي في عزل طهران سيرسخ منطق “الفاعلية الموازية” أي لجوء إيران إلى بناء أدوات تأثير خارج النظام الدبلوماسي الرسمي .

من هذا المنظور: يمكن القول إن المقاومة بالنسبة لإيران تحوّلت من أداة دفاعية إلى وظيفة جيوسياسية تعيد إنتاج مكانتها الإقليمية من خارج المنظومة التي أقصتها . وهو ما يجعل من تجربة كتائب القسّام مثالًا مبكرًا على سياسة “الفاعلية الموازية” حيث تلاقت دوافع المقاومة الفلسطينية مع حاجة إيران إلى تجاوز العزلة الدولية، فنتج عن ذلك محور إقليمي كامل يقوم على إعادة تعريف القوة بوصفها بديلًا عن الشرعية ، والميدان بوصفه امتدادًا للسياسة، والمقاومة بوصفها لغة الحضور في زمن الإقصاء.

والحال كذلك اليوم؛ إذ يتكرّر الموقف الأمريكي ذاته في مؤتمرات ولقاءات إقليمية لاحقة حيث تُدار ملفات الشرق الأوسط بذات المنهجية التي تستبدل الشمول بالتهميش ، فتُفقد التسويات أحد شروط نجاحها البنيوية: تعدد المداخل وضبط التوازنات من داخل المنظومة لا من خارجها .

ويكتسب هذا الشأن بعدًا عمليًا عند الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة وقف الحرب المقرة في شرم الشيخ ، حيث واجهت جهود التسوية تحديًا ملموسًا في معالجة مشكلة تجميد سلاح حماس . فقد أصبح واضحًا أن استبعاد القوى الفاعلة –كما حدث مع إيران في مدريد– يترك فراغًا سياسياً وميدانيًا يدفع الفواعل إلى اعتماد أدوات غير رسمية للحفاظ على حضورها ونفوذها. ومن هنا برز التحدي المزدوج: كيف يمكن دمج الحركات المسلحة ضمن ترتيبات وقف النار بشكل فعّال وفي الوقت نفسه الحفاظ على شرعية الحلول السياسية؟ إن التجربة تُظهر أن تجميد السلاح والتلكؤ في تطبيقه ليس مجرد خلل إداري ، بل انعكاس طبيعي لمنطق “الفاعلية الموازية” الذي سبق أن ساعد إيران على تحويل دعم كتائب القسّام إلى أداة جيوسياسية بديلة عن الدبلوماسية التقليدية .

د• تركي القبلان
رئيس مركز ديمومة للدراسات