لم يكن الغزيون في يوم من الأيام مجرد رقم يُضاف إلى قائمة المنكوبين، ولا صورتهم تحت خيمة منهارة مجرد لعبة سياسية تُساق في سوق المزايدات الإقليمية والدولية. لكن ما حدث بعد الحرب، وما يتكرر اليوم مع أولى موجات البرد، يكشف بقسوة أن معاناة الناس تحولت إلى أداة، أداة ضغط تستخدمها إسرائيل حين تشاء، وأداة بروباغندا تستثمرها حماس حين تحتاج إلى خطاب يثير تعاطف الخارج. وبين هاتين اليدين، تُترك غزة معلقة في الريح، بلا ملجأ، وبلا وعد يقيها مزيدًا من الانهيار.

العاصفة الأخيرة لم تكن مجرد حدث طبيعي؛ كانت امتحانًا أخلاقيًا للجميع. أمطار قليلة كانت كافية لإغراق مخازن الإغاثة القليلة المتبقية، وهدم آلاف الخيام التي صارت بديلًا مرًا عن بيوت هدمت ولم تُبنَ. صور الأطفال الغارقين في الوحل، والعائلات التي تجمع ما تبقى من أغطية مبتلة، لم تعد تحرك شيئًا في المجتمع الدولي؛ وكأن العالم اعتقد أن انتهاء الحرب يعني انتهاء المأساة. لكن غزة لا تزال ترزح تحت حرب ثانية، أكثر بطئًا، وأكثر قسوة: حرب الجوع، والبرد، واللا دولة.

لقد تكشف اليوم أن المجتمع الدولي تخلى عن غزة ما بعد الحرب، أو على الأقل تعامل مع الكارثة كأنها مرحلة انتقالية ينبغي أن تمر وحدها. التقارير الإنسانية تتراكم، والفيديوهات لا تتوقف عن نقل صور الفاجعة، لكن التأثير السياسي شبه معدوم. فقد استهلك العالم مشاهد الدمار حتى التخمة، وصار الألم مادة عابرة لا تثير سوى انزعاج لحظي يذوب بمجرد انتهاء المقطع.

ومن بين أكثر نتائج السابع من تشرين الأول (أكتوبر) حضورًا في حياة الناس اليوم، تلك المسافة الواسعة بين الخطاب السياسي والهم اليومي للسكان. صحيح أن الاحتلال مسؤول عما لحق بالقطاع من دمار، لكن ذلك لا يعفي حماس من مسؤولية ما تلا الحرب. فالإدارة الغائبة، وتأخر الإغاثة، وتراجع القدرة على تسيير أبسط الملفات، كلها عوامل ضاعفت من ثقل الواقع على السكان.

والحقيقة المريرة أن ما تعيشه غزة ليس مجرد تداعيات حرب، بل أزمة إنسانية عميقة تتسع يومًا بعد يوم. ومع دخول موجة البرد، تتضاعف المأساة: آلاف العائلات في العراء، لا إغاثة حقيقية، لا بنية تحتية، ولا مؤسسات قادرة على تنظيم الحد الأدنى من الاستجابة. هذه واحدة من أكثر الانعكاسات الكارثية لعملية السابع من أكتوبر، انعكاسات تتحملها حماس أولًا قبل الاحتلال، لأن الحركة أدخلت غزة في معادلة لم تملك أدوات إدارتها، ودفعت السكان إلى واجهة التكلفة كاملة.

ومع أن حماس تدرك أن السلاح لم يعد يمتلك القدرة على تهديد إسرائيل كما كان قبل تفكك محور الدعم الإيراني، إلا أنها تصر على إبقاء ملف السلاح في صدارة الخطاب. ليس لأن السلاح قادر على تغيير المعادلة، فقد فقد دوره العسكري تقريبًا، بل لأنه ورقة تفاوض تُستخدم لكسب الوقت، وربما لانتزاع دور سياسي في مستقبل غزة. لكن الوقت هنا ليس ملكًا للحركة، بل خصمًا شرسًا على حياة الناس.

لم يعد الانتقال السياسي في غزة مجرد ملف يمكن تأجيله أو ركنه في زاوية المفاوضات، بل تحول إلى شرط أساسي لوقف التدهور الذي يعيشه القطاع. فالفترة الفاصلة بين نهاية الحرب وبداية أي ترتيب جديد تُستنزف في فراغ إداري يراكم الأضرار أكثر مما يرممها، ويبقي السكان عالقين بين أطراف مشغولة بحسابات النفوذ أكثر من انشغالها بمعنى الحياة اليومية للناس.

وما تحتاجه غزة اليوم ليس سلطة تبحث عن موطئ قدم في خرائط ما بعد الحرب، بل سلطة قادرة على أن تنظر في وجه العائلات التي فقدت بيوتها، وأن تمتلك الأدوات لبدء إعادة البناء، وإدارة الإغاثة، وترتيب الأولويات بعيدًا عن سجالات الشرعية والهيمنة. فالمسؤولية هنا ليست سياسية فحسب، بل أخلاقية أيضًا، لأن ترك الناس تحت رحمة الفوضى هو شكل آخر من أشكال الإهمال الذي تُدفع كلفته ببطء، ولكن بثمن باهظ.

من المؤسف أن يتحول سكان غزة، بكل ما يحملونه من وجع وكرامة، إلى ما يشبه اللعبة في يد الفاعلين. فبؤسهم الذي يفترض أن يكون دافعًا للنجدة صار يُستخدم كرافعة ضغط في حسابات إسرائيل، بينما تتكئ حماس على مأساتهم لتغذية خطاب الإدانة وإبقاء صورتها في واجهة السرد السياسي. وبين هذا وذاك، يتراجع الإنسان إلى خلفية المشهد، وكأن حضوره لا يتجاوز ما تمنحه الصورة المتداولة من تأثير لحظي.