حاوره: عدنان حسين أحمد / أمستردام
&
&
في هولندا انضوى عدد من الشعراء الشباب تحت يافطة "الهامشيّون" ربما احتجاجاً على الأماسي الشعرية التي تنظّمها بعض المؤسسات والأندية الثقافية العراقية في هولندا التي تحتفي ببعض الأسماء الشعرية التي تتكرر إلى حد الاستفزاز، بينما يتّم التغاضي والإغفال المتعمد ربما لأسماء شعرية تؤسس تجربتها الإبداعية برصانة، وتفرض حضورها المهيمن من خلال نصوصها الشعرية المغايرة التي لا ينتمي أغلبها إلى الأفق السائد. ومن بين هذه الأسماء محمد الأمين، محسن السرّاج، ناجي رحيم، حسن مجيد الصحن، وأسماء أخرى تنتمي إلى هذه الظاهرة، وتشكّل نسيجها الداخلي مثل خالد زهراوي المهمّش مسرحياً، وحكيم جماعين، المهمش تشكيلياً، وأسماء أخرى تنتمي إلى خيمة " الهامشيون " ولكنها تخجل من الإعلان عن هذا الانتماء الذي قد يسبب لها بعض الإحراج الاجتماعي. ولأنني قريب جداً من هذه المجموعة إلى الدرجة التي أعرف فيها تفاصيلهم الصغيرة، وأسرارهم الشخصية، وأحدث قصائدهم فإنني أستطيع القول إن هذه المجوعة المتألقة تنتمي إلى المتن أكثر من انتمائها إلى الهامش، وأنها ستختّط لها طريقاً متفردة في الإبداع الشعري. وناجي رحيم هو أحدهم. فهذا القادم من الجنوب العراقي، من الناصرية تحديداً، يمتلك تجربة شعرية متفردة لا يمكن المرور عليها مروراً عابراً، لأن صوره الشعرية الواخزة تجبرك على الإصغاء إليه حينما يكتب بالعربية والهولندية. وبالرغم من احتفاء الهولنديين به مؤخراً لا أنه ظل أميناً إلى " الهامشيون " ووفياً إلى المقاهي، والبارات، والأمكنة المهملة التي قد لا تثير انتباه البعض، ولكنهم أقاموا فيها بعض الأمسيات الشعرية وسط صخب الرواد الذين لم يخفوا دهشتهم وهم يستمعون إلى أناس قادمين من بلدان بعيدة يقرأ ون شعراً في الميادين والأمكنة العامة. وللتعرف على بعض الأجواء الهامشية التقينا الشاعر ناجي رحيم، وكان لنا معه هذا الحوار:
* متى اكتشفت الشاعر في أعماقك، وكيف تعاملت مع توهّج اللحظة الشعرية الأولى التي هزتك وقذفت بك إلى مدارات الدهشة والذهول؟
ـ منذ كنت صغيراً ـ على مقاعد الدراسة الابتدائية ـ كانت تبدو لي حياتي المشاهد التي أرى سير الأحداث في ذلك الحي الفقير من أحياء مدينة الناصرية، حيث ولدت وترعرعت، وكأنها سؤال كبير أو مجموعة أسئلة متداخلة، وكنت قد وجدت عبر درس الإنشاء متنفسي الأول، معلم اللغة العربية تنبّه إلى ذلك، وهكذا بدأ احتضانه لي وطلب أن أقرأ ما أكتب أمام تلاميذ الصف، هكذا كانت البدايات، لاحقاً وفي مرحلة الدراسة المتوسطة تأطر ذلك بشكل أكثر وضوحاً، إذ شرعت بقراءة كتب كان يُعيرني إياها أستاذ اللغة العربية، وهو الذي رعى محاولاتي الأولى بالكتابة..
في هذه المرحلة تحديداً اكتشفت أن هنالك عالماً من المشاعر والأفكار والإرهاصات تركض كأيل في مرتع قلبي، وأن هذا العالم اللامحدود عالم الكتابة هو ما أريد. وإجابة على الشطر الثاني من السؤال، فأني لا أدري أية لحظة شعرية بعينها، تلك التي أخذتني أول مرة وزرعتني في خضمّ هذا الهول.. كما وأني أتساءل إن كان ثمة وجود لمثل هذه اللحظة الأولى، أعتقد بوجود حالات شعرية غامضة وكثيفة تولد مع الشاعر وتتناسل صعوداً مع كل شهقة.
ـ منذ كنت صغيراً ـ على مقاعد الدراسة الابتدائية ـ كانت تبدو لي حياتي المشاهد التي أرى سير الأحداث في ذلك الحي الفقير من أحياء مدينة الناصرية، حيث ولدت وترعرعت، وكأنها سؤال كبير أو مجموعة أسئلة متداخلة، وكنت قد وجدت عبر درس الإنشاء متنفسي الأول، معلم اللغة العربية تنبّه إلى ذلك، وهكذا بدأ احتضانه لي وطلب أن أقرأ ما أكتب أمام تلاميذ الصف، هكذا كانت البدايات، لاحقاً وفي مرحلة الدراسة المتوسطة تأطر ذلك بشكل أكثر وضوحاً، إذ شرعت بقراءة كتب كان يُعيرني إياها أستاذ اللغة العربية، وهو الذي رعى محاولاتي الأولى بالكتابة..
في هذه المرحلة تحديداً اكتشفت أن هنالك عالماً من المشاعر والأفكار والإرهاصات تركض كأيل في مرتع قلبي، وأن هذا العالم اللامحدود عالم الكتابة هو ما أريد. وإجابة على الشطر الثاني من السؤال، فأني لا أدري أية لحظة شعرية بعينها، تلك التي أخذتني أول مرة وزرعتني في خضمّ هذا الهول.. كما وأني أتساءل إن كان ثمة وجود لمثل هذه اللحظة الأولى، أعتقد بوجود حالات شعرية غامضة وكثيفة تولد مع الشاعر وتتناسل صعوداً مع كل شهقة.
* أتعتقد أن نصك الشعري ينتمي إلى النصوص القائمة على البنية الداخلية العميقة، والتي تعوّل بقدر أو بآخر على معمار فني مدروس بعناية فائقة، أم أنه يعوّل على لغة البوح والاسترسال والإندياح العاطفي الذي يأتي عفو الخاطر، بكلمات أخرى ما حدود المخيلة الشعرية المجنحة التي لا تستسلم أمام المنطق العقلاني المجرّد، والذي لا يجترح آفاقاً جديدة في التصوير والتخيّل والكتابة الإبداعية الجديدة؟
ـ بدءاً أود أن أشير إلى أن الصدى العميق المتبقي بعدد قراءة أو سماع قصيدة ما، هو المهم في رأيي، وليس الشكل الذي كتبت فيه، وكما أن الحاجة تخلق عضوها ـ كما يقول علم الأحياء ـ فأن القصيدة تخلق شكلها، وأعني بالشكل هنا، ذلك التساوق والعناق الحميم بين كائنات النص، إذاً، فأنا لا أعتقد بوجود مخطط مسبق لكتابة قصيدة، أن يجلس شاعر ما خلف طاولة الكتابة ويقول: ها أنا سأكتب قصيدة بهذا الشكل أو ذاك..ربما يوجد مثل هذا الشاعر، لكنه ليس أنا، النص الذي أكتبه هو ثمرة عفوية خالصة، استجابة أو تفاعل مع أحداث اليوم، الأمس، وربما الغد أيضاً، بمعنى الحلم، مشهد ما عبر شاشة التلفاز، قراءة خبر أو سماعه، حادثة على الطريق، إنثيال ذكريات في لحظة معينة، رؤية شجرة وقد حاصرها الإسمنت..الخ، تبزغ فكرة غائمة أو كلمات مبعثرة تتردّد في العمق.. هكذا تبدأ عندي القصيدة بطيئة وهادرة، قد تمر شهور أكون خلالها قد دمرت الكثير من الورق دون أن أستطيع تحديد ملامحها، كما أود أيضاً أن أشير إلى صعوبة، إن لم أقل استحالة تحديد ماهية هذا الهائل الغامض الذي نسمّيه الشعر، ثمة لا حدود يمكن أن تحيط به، ربما لأنه هو الإنسان، ويخطر في بالي الآن، ذلك الفيض الشعري العميق الذي حملته مقولة سقراط الشهيرة بـ "إعرف نفسك" أنها حالة من البحث الدائم، مثل هذا ينسحب في رأيي ـ على المخيلة الشعرية المجنحة ـ كما تصف أنت، وأنا أضيف ولكن بأقدام على الأرض، أن نكتب قصيدة ينزفها هذا الوقت، ترد عليه وتخاطب أُناسه، قصيدة تُرمّم هذا الخراب الهائل في الروح، الوطن والعالم، أو لعلها تخرم وجه هذا العالم من أجل ترميمه، مثل هذه القصيدة المشتهاة، لا يمكن لها أن تكون بياناً سياسياً محتجاً تعوّل على معمار مدروس بعناية فائقة، أو معادلة رياضية تهندس أضلاع الكون، أو بثاً فلسفياً يفسّر الوجود الإنساني، مثل هذه القصيدة لا يمكن لها أن تكون دون التفاعل مع مختلف التجارب والنتاجات الإنسانية، سواء أكانت فنية، دينية، أم سياسية، فلسفية..الخ، أنها تنهل من كل هذا وتصنع روحها البكر، روحها الشعرية الخاصة، وهذه هي الكتابة الإبداعية الجديدة كما أفهمها أنا، تلك التي لا تنطلق من قوالب جاهزة وصيغ شعرية معادة، أو مناخات كتابية مهيأة سلفاً.
* تنضوي أنت والشعراء محمد الأمين ومحسن السرّاج تحت يافطة (المهمّشين)، كيف تؤول فكرة التهميش وتتعاطى معها على الصعيد الشعري، هل نبذتكم الصلات الفخمة لتلوذوا بالأرصفة والحانات الليلية والغرف المعتمة التي تربك أسئلة الوجود البشري؟
ـ أجل، من الممكن قول ذلك، ومن الواضح أيضاً فأن الانضواء هنا لا يحمل معنى الاختيار، فالتهميش يحمل معنى التحييد، إن لم أقل فعل الإلغاء، إلغاء الآخر.. تأويل ذلك ينبع أساساً ـ وكما هو معروف ـ من تسييد اعتبارات تلعب فيها العلاقات والمحسوبيات دوراً على حساب الثقافة والإبداع.. وبقدر ما يخصني الأمر، فأنا أتعاطى مع هذا الأمر ـ إن صح ذكر التعاطي هنا ـ بألاّ أدع مثل هذا أن يعيقني عمّا اخترته لنفسي في مجال الكتابة. فها أنا ما زلت أتابع وأحاول جاداً حضور كل ما يتسنى لي حضوره من أماسي الآخرين الشعرية، وكذلك الفعاليات، والنشاطات المختلفة، التي تعدّها وتقدمها بعض المنابر الثقافية الجادّة في هولندا. لم تنبذنا الصالات الفخمة، بل نحن الذين نبذناها. لا تُغريني الأضواء الساطعة، بل أريد أن أستنير بشعلة القصيدة، تلك التي تنير غرفة العمر، فالشعر ـ وبعيداً عن أيّ تعريف ـ ليس ترفاً، بل حاجة وضرورة، إنه ربما هواء الشاعر وماؤه، والشاعر ـ كما أرى ـ كائن معذب أصلاً، تأخذه الأسباب ولا يستريح عند النتائج. أنا أكتب لأني لا أملك غير هذا الفعل من أجل إعادة التوازن، توازني في العالم، أو إعادة توازن العالم إليه في خضمّ هذه الفوضى التي تقود وتتحكم، بيني وبين كل ما هو فخم بمعنى التبرج، والهيئة الخارجية البرّاقة، سوء تفاهم قديم، الأرصفة والحانات الليلية خيارات محضة، إنها تقرّبك من مختبرات الروح الحقيقية، فتعيش أوقات عامرة بالدفء والانسجام مع أناس ذوي ملامح واضحة، لذلك تراني أختلف معك إذ أقول: بأن هذه الأمكنة لا تربك، بل تكثّف وتؤطّر أسئلة الوجود البشري.
&
* هل يتمترس الهامشيون خلف اعتراضات محدّدة، واحتجاجات جديّة على نصوص الشعراء غير المهمّشين أو الغارقين بالأضواء السحرية الجذابة، ألا تتوقع أن الهامش سوف يصبح متناً ذات يوم؟
ـ أحاول وانأ أجيب على هذا السؤال أن أنأى عن اللغة السجالية المتداولة للأسف في مشهدنا الثقافي، إن الاعتراض الأساسي ينحصر على ما يمكن أن نسمّيه بـ "ظاهرة التلميح المجّاني" للبعض على حساب آخرين. نحن نسعى إلى خلق منبر يعبّر من خلاله المبدع عن تجربته دون أن يكون ملزماً بتقديم تنازلات من أيّ نوع. أمّا الاحتجاجات على نصوص بعض الأسماء الملمّعة في خارطة الشعر العراقي، فهذه هي مهمة النقد بالدرجة الأولى، وهو الذي نكاد نفتقر إلى وجوده للأسف. وللإجابة على الشطر الثاني من السؤال أقول: أجل، ثمة علاقة بين المتن والهامش، ربما ويمكن لي تشبهها بعلاقة صراع الأضداد في الديالكتيك الماركسي، فالمتن حرفياً ينضج ويتكامل بملاحظات الهامش، أمّا على الصعيد العملي، فهنالك علاقة فنية إبداعية، كما نوهت.. الهامش هنا يتناسل عبر فضاءات خاصة، أنه يختار ويخلق هذه الفضاءات الصحيّة، إذ تلوّث السياق العام/ المتن، بالسجالية والشعاراتية والأُطر المعادة والكلمات الرنّانة التي لا تقول شيئاً، أمّا إذا تحوّل الهامش إلى متن ذات يوم، فربما يمكن لي أن أقول: إذاً، بأن الإنسان المبدع قد حقق أجمل ما عنده! ولكن إذا ترهّل هذا الهامش وأخذ يفاضل اللاإبداعي واللاثوري على الإبداع البكر، فأنه يمهّد بذلك صيرورة هوامش أخرى ستطاله وتنحّيه.
* هل يتمترس الهامشيون خلف اعتراضات محدّدة، واحتجاجات جديّة على نصوص الشعراء غير المهمّشين أو الغارقين بالأضواء السحرية الجذابة، ألا تتوقع أن الهامش سوف يصبح متناً ذات يوم؟
ـ أحاول وانأ أجيب على هذا السؤال أن أنأى عن اللغة السجالية المتداولة للأسف في مشهدنا الثقافي، إن الاعتراض الأساسي ينحصر على ما يمكن أن نسمّيه بـ "ظاهرة التلميح المجّاني" للبعض على حساب آخرين. نحن نسعى إلى خلق منبر يعبّر من خلاله المبدع عن تجربته دون أن يكون ملزماً بتقديم تنازلات من أيّ نوع. أمّا الاحتجاجات على نصوص بعض الأسماء الملمّعة في خارطة الشعر العراقي، فهذه هي مهمة النقد بالدرجة الأولى، وهو الذي نكاد نفتقر إلى وجوده للأسف. وللإجابة على الشطر الثاني من السؤال أقول: أجل، ثمة علاقة بين المتن والهامش، ربما ويمكن لي تشبهها بعلاقة صراع الأضداد في الديالكتيك الماركسي، فالمتن حرفياً ينضج ويتكامل بملاحظات الهامش، أمّا على الصعيد العملي، فهنالك علاقة فنية إبداعية، كما نوهت.. الهامش هنا يتناسل عبر فضاءات خاصة، أنه يختار ويخلق هذه الفضاءات الصحيّة، إذ تلوّث السياق العام/ المتن، بالسجالية والشعاراتية والأُطر المعادة والكلمات الرنّانة التي لا تقول شيئاً، أمّا إذا تحوّل الهامش إلى متن ذات يوم، فربما يمكن لي أن أقول: إذاً، بأن الإنسان المبدع قد حقق أجمل ما عنده! ولكن إذا ترهّل هذا الهامش وأخذ يفاضل اللاإبداعي واللاثوري على الإبداع البكر، فأنه يمهّد بذلك صيرورة هوامش أخرى ستطاله وتنحّيه.
* ألا تعتقد أن نصوصك الشعرية التي تكتبها باللغة الهولندية مباشرة أو تلك التي يترجمها لك البعض إلى الهولندية قادرة على انتشالك من الهامش إلى قلب المشهد الشعري الهولندي، الأمر الذي يُهدّد وجودك في خيمة الهامش، ويقلق تشبثك بالرصيف الذي يمنحك حرية الحركة والتنفس وخرق التابوات وما إلى ذلك؟
ـ لا أظن ذلك، كما وأني لا أسعى أن أكون في قلب أيّ مشهد شعري، أعتبر نفسي شاعراً متواضعاً، لذلك تراني مبتعداً باختيار ووعي عن دائرة الأضواء، هكذا كنت على أرض الوطن، وهكذا أنا أيضاً في هولندا. تأسيساً على هذا أقول: بأني لا أشكو وجودي في خيمة الهامش ـ كما تصف ـ بل أحتفي به، ولقد ذكرت قبل قليل بأن الهامش يصبح ضرورة حياتية تخلق فضاءاتها الخاصة، المغايرة إبداعياً لما هو سائد ومستحكم. سأظل متشبثاً بالرصيف والحانة فهذا هو مكاني لكي أعمل على نصوصي التي أتمنى أن يرى أصدقاء الرصيف أنفسهم فيها. أمّا فيما يتعلق باللغة الهولندية فأنا قد شاركت ـ كما تعلم ـ عبر نصوص معدودة مع شعراء هولنديين في إصدار مجاميع شعرية مشتركة، كذلك جمعتنا قراءات شعرية في مناسبات مختلفة، وهي تجربة ما زالت في بدايتها، ربما من المهم أن أذكر هنا بأني ترجمت إلى الهولندية بعض النصوص لشعراء عرب، مثل الشاعر العراقي فاضل العزاوي، والشاعر المغربي طه عدنان، والشاعر الليبي عمر الكدي، وقد أُلقيت هذه الترجمات بحضور هؤلاء الشعراء في مهرجان شعري هولندي ـ عربي في مدينة لاهاي، كما أعكف الآن على ترجمة مجموعة شعرية للشاعر والفنان ناصر مؤنس إلى الهولندية.
* بوصفكم شعراء هامشيين تتحلّقون حول فكرة محدّدة، هل لديكم رؤية شعرية ما تبلور مشروعكم الشعري مثل إثارة الأسئلة المشاكسة التي تقلق المتلقي وتضعه في دائرة الإرباك والدهشة، أو الإحساس السرّي بالجمال، بحيث تقفون في الضفة المواجهة لشعراء الصالات الأنيقة أو شعراء المتن المدللين؟
ـ أعتقد بأن الفكرة الوحيدة التي ننطلق منها تكمن في أهمية وجود مناخ شعري أو كتابي عامر بالاعتبارات الإبداعية، ـ ولقد سبق لي أن نوهت عن ذلك ـ هذا لا يعني إذاً، وهذه قناعتي الشخصية، أننا أصحاب رؤية شعرية محدّدة، يكمن خلفها مشروع شعري ذو ملامح خاصة، لكننا لا نستعير بالتأكيد أقلام الآخرين، لنكتب تجارب لا تمت إلينا بصلة وهذه قناعة إبداعية نشترك فيها ـ كما أظن ـ والعديد من الشعراء المعاصرين. إنه طموح كبير ورائع أن يكون لأصواتنا نبراتها المميزة وأن تجد لها صدى عند القارئ.. غير أن الكتابة الإبداعية تبقى جهداً فردياً قبل كل شيء، حتى ولو التقى بعض الشعراء في رؤىً ثقافية متقاربة، أمّا فيما يتعلق بالشعراء المدللين والصالات الأنيقة التي تضمهم، فأني أتمنى لهم المزيد من الأضواء فقط، أود أن أذكرهم بأن ضوء القصيدة والصدق مع النفس والقارئ، هو ما يعوّل عليه، وليس بريق الملابس واحمرار العيون من شدّة الضوء المسلط.
* هل تعتقد أن الشعر الحديث قد ترجّل من أبراجه العاجية، وتخلّى عن موضوعاته الكبيرة كالوجودية والميتافيزيقية والتجريدية والحس التأملي القريب من الفلسفة، وبدأ يتعاطى مع ميادين وموضوعات كان يترفّع عنها سابقاً، بعبارة أخرى، هل تخلّى الشعر عن هالته المقدّسة، وتنازل عن هيبته القديمة، وبدأ يتعاطى مع اليومي والمألوف والعابر من الأفكار والثيمات الشعرية؟
ـ هذا سؤال دسم، لكنني أعتقد أنه لا يمكن لنا أن نتحدّث عن الشعر، بمثل هذه الشمولية التي يوحي بها السؤال، إذ لا بد لنا من تحديد أيّ شعر نعني؟ ثم هل هو في نموذجه العالمي، العربي أم العراقي تحديداً؟ خاصة وأن الحجم الهائل لما يُنشر الآن من شعر تصعب الإحاطة به، وفي ذلك ثمة الكثير الذي يتخذ شكل الشعر ولا يحمل روحه، الحقيقة لا يهمني من هو الشاعر بقدر ما يهمني النص الذي يحمل مثل هذه المواصفات، وأعني الألم الإنساني بأبعاده المعيشة، وفي أحيان أخرى تقرأ نصوصاً فلا تدري أين بدأتَ وأين ستنتهي، تهويمات لغوية لا تملك من الشعر سوى أنها منشورة باسمه في كتاب أو صحيفة. إذاً، يمكن لي أن أجيبك ـ وبعيداً عن التعميم ـ بأن الشعر الحقيقي لم يغادر، ولم يأت لأنه موجود أصلاً، الشعر يمسّد نبض الشارع أو يُعرّيه، إن اقتضت الضرورة، لكن هذا ليس هو كل المشهد، فثمة شعر كالمواسم يغادر ويأتي، غير أنه لا يحمل سوى الدوران المحموم في أفلاك من كلمات، ولأنك بدأت السؤال عن الشعر الحديث، بمعنى المعاصر، أود أن أقول: ثمة نصوص في تراثنا الشعري العربي وفي التراث الشعري العالمي، لهي أكثر معاصرة في مخاطبتها واقترابها من دائرة الألم الإنساني، من بعض الشعراء العرب والعراقيين الذين ما زالوا يلهثون وراء مدارس ونزعات فلسفية وفنية ممن ذكرت أنت وأخرى غيرها، في الوقت الذي استهلكت فيه ـ هذه المدارس ـ في منابعها الأصلية. خذ على سبيل المثال الوجودية التي بدأت في جانبها الديني على أيدي كير كيغارد في النصف الثاني من القرن التاسع العشر، ثم طوّرت نزعتها المادية مع هايدجر في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، ليأتي دور سارتر، فتنتشر عبر أعماله الفلسفية والأدبية عشية الحرب العالمية الثانية، ولكن بعضنا ما زال ومنذ ستينات القرن الماضي وإلى يومنا هذا، يجترها اجتراراً.. وبصراحة فأني لا أستطيع أن أفهم ـ ولا أريد أن أفهم ـ شاعراً عربياً أو عراقياً مأخوذاً بهواجس فكرية محضة، فتأتي كتاباته وكأنها أحجية أو طلاسم لا يفكّها إلاّ الضالعون في العلم، يا ترى على من يكذب مثل هكذا أستاذ على نفسه أم على القارئ؟
التعليقات