أجرى الحوار حكمت الحاج
&
*&تواصلا مع حديثنا، اسمح لي هنا أن أردد جملة لك وردت في القسم الأول من حوارنا هذا: "حاكم مطلق واحد كامل غير منقوص يخرج من أمة عبر مفهوم الهوية وينفصل عنها متعاليا يتوسل لغة إطلاقية غير تاريخية، هذه هي صورة الحكم العربي".. وسؤالي هو: لماذا وضعت "الأمة" ضمن عناصر هذا التعريف المرعب؟
- حول مفهوم "الأمة"، أثبتت بعض الدراسات جدة هذه المفردة وعدم وجودها كمصطلح مهيمن على التفكير والسلوك الإسلامي الأول. ففي القرآن مثلا، الكلمة لها معنى الجسد الروحي.. باختصار، أنا أرى إن "الأمة" من المفاهيم التي يجب أن تراجع باستمرار كما أن تتم موضعتها تاريخيا بشكل دقيق.
&
*&أيضا ضمن حوارنا هذا في قسمه الأول، ذكرت& صدام حسين كمثال.. كيف ترى إلى المسألة العراقية الآن؟
- إذا كان الإنسان لا يقبل ببعض الخسارة، فإنه سيجد دائما ذئبا يأتيه من الخارج ليعطيه درسا في معنى الخسارة. المعركة كانت ما بين الذئب صدام حسين والذئب بوش الذي انتصر أخيرا بفعل قوته. من الممكن أن تكون المسألة العراقية بالنسبة إلينا بمثابة ثغرة للدخول إلى التاريخ وذلك بأخذ الدروس والعبر من هذا الذي حصل. وهنا يجب التأكيد دائما على أن الأسباب الرئيسية لما حصل هي أسباب داخلية مكنت الأعداء من العبث والتدمير.
&
* كيف نفهم هذا؟
- لكي نفهم هذا، لا نقول بأننا يجب أن نقبل الاحتلال الأمريكي للعراق، بل هو القبول بالدرس التاريخي البليغ الذي فرضته وتفرضه الحالة العراقية الراهنة وهذا الدرس بكل اختصار هو إن السلطة بالمفهوم الذي أتينا على ذكره سابقا لن تؤدي إلا إلى الموت. وعلى أية حال، وفي كل صورة، إذا لم تتغير أنظمة الحكم العربية فإن ما حصل للعراق سيقع لجميع الدول العربية بشكل أو بآخر، لأن العدوان الخارجي يستغل تناقضات الداخل للمرور وللهيمنة ومن ثم الابتلاع والتدمير.
&
* ولكننا يمكن أن نؤشر على انهيار تام للعرب.. أليس كذلك؟
- نعم، هناك انهيار داخلي تام ومحبط.. انه شعور بالمرارة..
&
* ولكن برأيك هل لهذا علاقة مباشرة بالوضع في العراق؟
- ليس تماما.. إن هذا الانهيار الداخلي قد طال العرب جميعا، قبيل سقوط نظام صدام، وهو إنما ختم بالسقوط كمؤشر للانهيار داخل الذات العربية. ونحن إذا ما قبلنا بفكرة الانهيار العربي هذه، فإننا من الممكن أن نفكر بوسائل ناجعة لإعادة البناء. بناء الذات المحطمة، وبناء المجتمع الكبير.
&
* وهل كانت النخب العربية، أو لنقل بشكل أدق، هل كان المثقف العربي، واعيا ومستشرفا لهذا الانهيار؟
- كلا.. المثقف العربي لم يكن واعيا لهذا الانهيار. المثقف العربي له بنفسه طموح نحو الحكم، وهو ملاصق ملتصق بالحاكم. وهذا المثقف العربي في أحسن حالاته هو عندما يروج لخطاب الحاكم العربي من غير أن يلعب دوره الحقيقي كمثقف.
&
* وما هو الدور الحقيقي للمثقف العربي؟
- دور المثقف العربي الحقيقي هو في أن لا يكون ملتصقا بالحاكم مهما كان ذلك الحاكم. وإنما مطلب المثقف الوحيد إزاء الحاكم هو مطالبته بأن يكون حاكما عادلا وليس أي شئ آخر عدم الالتصاق بالحاكم، ونشدان العدل، مكمن قوة المثقف الروحية والسياسية.
&
* ماذا تقصد بـ "العدل" في هذا السياق؟
- "العدل" ليس فكرة ميتافيزيقية بل هو فكرة مادية تنبع من توازن القوى الاجتماعية.& وكثير من المفكرين قبلوا بفكرة أن لا يكون العدل شاملا. مثلا في العلاقة بين الرجل والمرأة: فكثير من المفكرين يقبل أن تكون المرأة في درجة أقل من الرجل.. ونحن نعلم إن ذلك يمر بموضوع "الحق". إن مفهوم العدل ليس خاصا بالإنسان الفرد، فالفرد لا يستطيع أن يكون عادلا بشكل كامل. ولكن النظام الاجتماعي من الممكن له أن يكون عادلا شاملا، وهو كما يقول "نيتشه" سيكون متأتيا من توازن القوى. إذن، فانقسام القوة الواحدة يؤمن توازنا في القوى يؤدي إلى العدل. وأرجو أن تلاحظ إن هذا كما هو واضح على مستوى الفرد والمجتمع، فإنه واضح أيضا في السياسة الدولية.
&
* لا نكاد نخرج من مشكلة "العدل" حتى نقع في مشكلة "الحق"، حتى لكأن الموضوع يخرج مرة أخرى من "عين الواقع"، ولا أدري أين، ربما إلى الخيال ثانية أو ما أسميته أنت بـ "التوهم"
- صحيح، تبقت لدينا مشكلة أخرى. فالإسلام، خلافا للأديان الأخرى، يرى إن "المثال" قد تحقق في الماضي، فهو إذن ليس في المستقبل. وان كل ما يتم الطموح إليه هو إعادة الماضي. وإذن، وحسب هذا التصور، فلا يوجد هنالك مستقبل. ومن هنا نرى كيف أن المسلمين في الحقيقة ليس لهم أفق مستقبلي. وما تعمله الجماعات الإسلامية الآن ما هو إلا إعادة تحقيق لصورة الماضي. وهم في الحقيقة لا يعملون شيئا إلا "قتل الأمل". هذا السلوك يوضح بجلاء تلك الحالة العقلية الانفصامية أو الماناخولية التي يعاني منها المجتمع العربسلامي تحديدا، إضافة إلى سيطرة الكآبة والسوداوية. فإذا كانت ثمة صورة "مثالية" للنبي محمد فلا شك إنها صورة مثالية روحية وليست صورة بالمعنى الدنيوي المبتذل. فمحمد نفسه يقول عن نفسه إنه إنسان غير معصوم من الخطأ لأن العصمة لله وحده.
&
* هناك خلط إذن كما هو واضح أليس كذلك؟
- نعم.. بالضبط.. فهذا الخلط ما بين الصورة المثالية الروحية لمحمد، وبين صورة القائد الدنيوي الحاكم الذي يصيب ويخطئ، تحولت فيما بعد إلى فكرة صوفية مطلقة عن رجل غير ممكن أن يتعين على مستوى الواقع. حتى الخلفاء الراشدين لم يعتبروا أنفسهم معصومين من الخطأ، ولكن أنظر الآن، هناك من ينظر إليهم على أنهم تجسيد للـ "المثال". من هنا يمكن العودة إلى القول كيف إن العرب مشوا في اتجاه تفضيل "الهوية" بالمفهوم الوهمي الميتافيزيقي، على مفهوم "الحرية" بمعنى ممارسة المسؤولية التاريخية.
&
* "لست أنا ما لم أكن الآخر في داخلي.. فالوجود الحق هو خروج من النفس النرجسية عن طريق الآخر.." هكذا تعرف "الهوية" بالمفهوم العميق كما تحب أن ترى إلى ذلك، هل هذه "الهوية" هي المقصودة في كلامك أعلاه؟ إذن ماذا يمكن أن نقول عن الدين وعلاقته بالسلطة عند العرب، إذا كانت السلطة قد نجحت في استغلال "الهوية" على حساب "الحرية"؟
- نعم بكل تأكيد.. سلطة الحكم العربية استعملت وتستعمل الدين بطريقة تقوي، بل وتمول مفهوم "عبادة الفرد" حاجبة إياه، أي الدين، عن التحول إلى "واقع".. إنها طريقة في الكذب على الوجود يمارسه الحاكم العربي من أجل البقاء والسيطرة والتمتع بالسلطة.
يتبع
&
التعليقات