منذ تلك المساءات الشفافة البعيدة التي أسرتني بها حبال الشغف غير المرئية بهذه اللغة المتفرّدة وتخييلاتها ورؤاها المشتعلة في جسد القصيدة العربيّة منذ أكثر من خمسة عشر قرناً، ومنذ تلك اللحظات الزرقاء الغاربة وراء شفق الصبا كأنها ظلال عيون حور، وأنا في مدٍّ وجزر من يقيني وشعوري الساحر بشبه ذنب لتضحيّتي في سبيل هذا الشغف الأبدي بالغالي والرخيص عندي. كما أنَّ الفجوة بين المشهد الواقعي الحقيقي والحلم الرؤيوي لديَّ تزدادُ اتساعاً وعمقاً وغربة يوماً على يوم، بل لحظة على لحظة، وسط هذه التيارات العاتية للمذاهب الأدبية والأفكار الجديدة. وفي خضّم التناحر الثقافي الرقمي الذي بات يقنعنا بأن ما يكتب اليوم من نثيرات عادية تبحث عن الشعر ولا تجده وتملأ عالمنا هو الصورة الحقيقية والنموذج الأعلى للشعر العربي، ويجهل أصحابها أن الشعر هو موروث ولغة وفكر وعاطفة وخيال وذوق ومقاييس جمالية وإيقاع، تجتمع كلّها في هورمونيا عجيبة وتتحدُّ اتحاداً يصعبُ تفكيك ذراته.

وأصبح لزاماً عليَّ أن أردّ على حيرة القلب فيما يفسرُّ انهزامية الشعر وانتهاء ظواهره وغروب شمسه عندنا وفي أماكن أخرى من العالم. إنَّ الكثير من الأسئلة النازفة والمتعلّقة بالمصير الحتمي للشعر خاصة وللإبداع عامة تلّحُّ عليَّ اليوم كما لم تلحُّ عليَّ بهذا الزخم وبهذه الحساسيّة في أيِّ وقتٍ مضى. ذلك أننا نعيش على شفا مرحلة فاصلة في تاريخ البشر من انعدام مركزيّة الخطاب الحضاري، المتمثلة بازدهار الفنون والآداب وانتهاء زمن التفرّد والنجوميّة والأضواء، وفقدان الكلمة لقيمتها العليا.

أحياناً أقول إنَّ هذا التراجع في القيمة الأدبية أو الفكرية عندنا يرجع إلى فقر في تجاربنا الحياتية بالقياس إلى الغرب، أو يعود إلى عقلية غير متحرّرة بعد من قيود عديدة منها الدينية والأخلاقية والاجتماعية والنفسية.

نعم, لدينا مواهب ربما بحجم مدهش، لكننا لا نملك أدباً كأدب الغير، ولا أدباء مكرَّسين وناجحين في الوقت نفسه كهنري ميلر وماركيز وتوماس مان وغيرهم، لسبب بسيط فقط، لأنهم جعلوا من الحرية الإنسانية قيمة عليا فوق كل القيم والاعتبارات. ولأنَّ لغتهم ممتزجة حتى القرار بدماء تجاربهم الحياتية، ومتقاطعة مع خطوطها الكثيرة الطولية والعرضية كل تقاطع، ومتماهية مع ذواتهم حتى النهاية، ولا سلطة لدين أو أخلاقيات أو تقاليد مجتمع على أقلامهم. هنالك فقط إخلاص للفن والتجربة، هذا عدا عن تقديس الكلمة بوصفها المادة الخام المستعملة في صياغة الملحمة والتاريخ والمستقبل.

هذه التداعيات ربمّا تفتّحت جروحها من قبل، ولكنها لم تكن ذات وجعٍ مقلق كما هي الآن. كنت في حداثتي أحاول أن أعزّي النفس وأرفو جراحها بشتّى الأسباب الداعية إلى التفاؤل والشجاعة في مواجهة هذه الحياة بسلاح الشعر، ولكنّي في هذا الوقت بالذات أعرف كم كانت نزوة الحداثة جامحة، وكم كان مسكوناً حصان تلك المرحلة بعد الطفولية بلهيب بابلو نيرودا. كانت الأشياء "كل أشياء الكون" لا تزال محتفظة في ذهنيتي الغضةِ تلك بكلِّ حرارتها وغناها الوجودي المعنويِّ. كان الواقع بكلِّ صوره وتجلياته اللانهائية يبدو لي وكأنه مأسطرٌ، من "أسطورة"، ولم تنشرخ مراياه بعد وتتكسّر أمام عينيَّ كما هي الآن، كسرٌ من نجوم على شاطئ وجداني. كنت أعيش بالروح في صميم رومنطيقية أوائل القرن التاسع عشر الأوروبية، وكان جسدي في أواخر القرن العشرين. أي أنَّ قرنين من الزمن تقريباً كانا يفصلان ما بين روحي وجسدي. وكان الشعر بأجنحته يشرع لي أبواباً سماويّة غريبة ويدشنُّ أرضي بالفتوحات الجديدة. كنت مثل شاعر دون جوان يعيش ويدور في مدار وهمه، يكتب حياته قصيدةً في انتظار عبثيِّ لمن أحبّ حتى لو كان انتظاره أطول وأسخف من انتظار "غودو" بآلاف المرّات.

كنت أعتقد، كما يعتقد الحالم، أنَّ الشعر ما زال الملك، أو كما قال نزار قباني يوماً عنه إنه "ملك الملوك". هذا إحساس يصحبني وأحاول أن أخدع نفسي به. ولكن الحقيقة الواقعية تقول إنَّ الشعر لم يعد ملكاً ولا حتى صعلوكاً، بل أقلّ من ذلك بكثير. ولم تعد هذه المهنة الملعونة / المقدّسة تردُّ على تقلبّات روح العصر وسؤالها الوجوديِّ الصعب.

ولقد قادني إحساسي بهذ الفراغ النسبي لجماليّات الحياة وروحانيتها وشعوري بضحالة تجربتها وسطحّيتها أن أطرح على شاعر فلسطيني يعتبر رمزاً شعرياً لامعاً، لا في مرحلة سابقة وحسب بل في الراهن واللاحق، سؤالاً بديهيّا يلخصُّ الكثير من قلق الريح والحبر فيَّ.

إلى ماذا يحتاج الشاعر العربيُّ اليوم لكي "يكون"؛ وبكل ما تحمل هذه الـ"يكون" من معان ودلالات وأبعاد وتصوّرات.

في حديث لي مع الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم، قال إنَّ الشاعر، لكي يكون حاضراً في مشهد الإبداع الحقيقي بقوة وعمق، يجب أن تتوَّفر له ثلاثة أسباب أو عناصر مهمّة.

العنصر الأوّل هو الاستعداد النفسي السيكولوجي الداعي إلى تحفيز السليقة البديهية لدى الشاعر للكتابة ومحاورة الأشياء، بالاضافة إلى الموهبة الفطرية التي تولد معه وتنمو بالرعاية والقراءة والتثقيف وتصقلها الأسفار، وهي الشيء المحتفظ بفرادة الإنسان وتميّز طابعه.

إقرأ أيضاً: أفاعي إلياس أبو شبكة وأزهار بودلير

والعنصر الثاني هو ما أسماه القاسم بالرهبنة الشعرية أو الانقطاع والتكرّس للشعر والإخلاص له والإيمان بقيمته العليا وجعله فوق كل اعتبار آخر، مهما كانت العواقب والظروف الحياتية، بوصفه أحد آخر المحاربين الوجوديين على كياننا كبشر نملك أحاسيسَ وعواطفَ سامية، ويجدر بنا أن نعبرَّ عنها وفق أهوائنا وأحلامنا غير منهوبة. أمّا العنصر الأخير، فهو التجربة الشخصية الحياتية، بكل ما فيها من تقلبّات ورغبات، وبكل ما تحمل من جموح الحياة وتناقضاتها، كأن يبيت الإنسان في سجن وضيع ويصبح في فندق سبعة نجوم. أو تقذفه الحياة من قمة أحلامه إلى هاوية جحيمه بين عشيّة وضحاها. وأضاف أيضاً أنَّ الشاعر لا تصنعه الأضواء ولا الدعاية، بقدر ما يصنعه نصه. ولا فائدة من تلميع اسم شاعر معيّن إذا كان ما يكتبه رديئاً. ففي عصور خلت، امتلأت الأرض بأصوات مندثرة لشعراء كثيرين عاصروا هوميروس والمتنبي ودانتي وشكسبير. إذ أنَّ المقياس الوحيد للنجاح الأدبي الحقيقي هو القيمة الكتابية وليس أي شيء آخر.

وأردتُ هنا أن أشددَّ على كلمة "رهبنة"، لأنَّ هذا المصطلح فضفاض بعض الشيء، ولا أعتقد أنه يناسب زماننا ومكاننا، بقدر ما كان يناسب الماضي. فالحياة تغيرت.. والفن لم يعد له تأثير كما في الماضي، والشعر يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة وسط هذا الكم الهائل من الأسماء والمنصات الافتراضية والفضاءات، وأمام أساليب ووسائل جديدة لنشر الإبداع والفن وتوصيله بأسهل الطرق وأيسرها إلى عقلية قارئ مشغول بسطحيّات الأمور وتوافهها، ومنهمك بمشاغله المادية، وبما يتيحه العصر من مشاغل أخرى أكثر تسلية ًوبساطة ومجانية ولا تشقُّ على الذهن. أما اليوم، فالرهبنة الشعرية التي يحلم بها بعض المثقفين بإيمان الشعراء العميق علَّ مركبها يوصلهم إلى شواطئ الإبداع الجديدة والنائية، قد تكسرَّت هي ومركبها الهش على صخور الواقع القاسية، وتناثر حطامها على شاطئ الحياة المادية التي لا ترحم.

إقرأ أيضاً: ماريو فارغاس يوسا وفردوسهُ الإيروسيُّ المفقود

كنت مسكوناً بنار نبيلة ومأخوذاً بروعة هذا التمردِّ الجليِّ ونبرته التي أخرجتني من صلب واقعي بعض الشيء، وأشعلت حطام هذا المركب الغريق، "مركب الرهبنة الشعرية"، وحوّلته رماداً لعنقاء أخرى. بينما كان صوت القاسم يفيض حباً لهذا الوطن وترابه، وحماسةً وكرماً قلمّا وجدتهما في شاعر غيره. كان بسيطا خلوقاً كفارس القصيدة النبيل، فهو من أهمِّ المدافعين عن قداسة وأصالة لغتنا، ومن المتغنيّن بروعة الشعر العربي القديم وإشراقة ديباجته وغنى تجربته الروحية. وهو حارس جماليات الموروث الشعري العربي ومن أبرز القابضين على جمر القصيدة الهادرة.

ولكني في أعماق نفسي كنت أحسُّ أنَّ هذا الكلام ربما يكون حماسيّاً أو ربما يكون عزاءً حميماً لي من راهب الشعر العربي المتمرّد. وكنت في دخيلتي أرجو أن يكون هذا الكلام الذي يقال صحيحاً لأحاول أن أرممَّ به بعض خراب الروح، وأشحن همتي لكتابة قصيدة جديدة تسيل دم الأسئلة فقط. لا أريد لها أن تتحدَّى طائرة أو بارجة، بل أريدها أن تنطلق كفراشةٍ أو كطير سنونو في المدى، أو تذوب كقطرة ضوء بنفسجّية اللون على أعتاب الشمس. وأنا واثق أشدَّ الثقة من أنَّ الشعر قد مات، وليس هذا الغناء المنطلق من حناجرنا بين الحين والحين إلاَّ مارشاً جنائزياً في طريق الشعر الأخيرة.