يلزم بداية أن ننوه أننا حين نتناول أمور الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بالنقد، بهدف إحداث تغيير جذري بها، فإن المستهدف بالتغيير ليس بالطبع الحقائق الإيمانية المسيحية ذاتها، ولا أساسيات الإيمان الأرثوذكسي، فالجانب الروحي في هذه وتلك شأن خاص بين المؤمن الفرد وخالقه، وهو من حيث المحتوى يندرج ضمن دائرة الإيمان، غير القابلة للفحص والاختراق بآليات العقل المنطقية تجريبية المنهج، تلك التي تقتصر صلاحيتها على الواقع المادي الملموس، كما أن مفاهيم ومقولات دائرة الإيمان لا تصلح لمعالجة ما هو خارج حدودها، هذا إذا ما تعدتها إلى واقع الحياة المادية العملية، فالحدود بين الدائرتين إذا ما تلاشت، لتختلط الأوراق والمفاهيم، فيتسلل المادي إلى الإيماني، ويختلط الإيماني بالمادي، فهو الفساد والإفساد لكل منهما.
فكما أن نقد الإيمان بواسطة العقل عمل غير علمي، لأنه يستخدم مناهج خاصة بالمحسوس لتقييم غير المحسوس، حيث يقول القديس بولس: quot;وأما الإيمان فهو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترىquot; عب 11: 1، والعقل لا يصلح للتعامل مع ما لا يرى أو ما لا يمكن رصده بأي وسيلة مادية، كذلك فإن استخدام المقولات الإيمانية لتأسيس علاقات مادية أرضية هو نهج غير ديني وغير إيماني، وإنما هو إساءة توظيف للدين والإيمان، وإهدار للعقل الذي أودعه الخالق في الإنسان، ليؤدي وظيفته المحددة، التي هو قادر بتكوينه وبعد تدريبه على القيام بها على الوجه الأكمل.
نتناول الكنيسة القبطية الأرثوذكسية إذن من جانبها المتمثل في أنها مؤسسة جماهيرية حاضنة لأنشطة تعليمية وصحية واجتماعية واقتصادية، وهذا يعني أننا نتناول منها ما تخرج به عن حدود دائرة الإيمان، لتتعداها إلى العمل الأرضي والعلاقات الإنسانية بمختلف نواحيها، أي إلى المجال الواقع ضمن اختصاصات وصلاحيات العقل بالدرجة الأولى، ونعني بقول الدرجة الأولى أن العقل يكون هنا هو المرجعية، إذ هو الذي يحدد الصواب والخطأ، على ضوء ما يتحقق من نتائج عملية على أرض الواقع، حيث ما يحدد الصواب والخطأ في أي مقولة ليس المصدر الذي استنتجت منه، سواء كان أيديولوجية أو حتى مجموعة بديهيات ومسلمات، وإنما هو مرتهن بتقييم النتائج العملية المتحققة، فالقضية التي يثبت عملياً أنها إيجابية التطبيق لصالح الحياة والرقي الإنساني تعتبر صحيحة، وعكسها هو الخطأ.
فالبرهان العقلي طبقاً للمنهج التجريبي (الوضعية المنطقية) والفلسفة البرجماتية برهان بعدي وليس قبلي، ويختلف تماماً عن مفهوم الحلال/الحرام، والذي يستند إلى تطابقه مع العقيدة محل الإيمان، من هنا كان البرهان على الحلال/الحرام برهاناً قبلياً، ومجاله الأساسي كما قلنا هو علاقة الفرد الخاصة بالإله فيما يتعلق بأمور السماء والحياة الآخرة، والتي أشار إليها القديس بولس في الآية السابقة على أنها quot;الثقة بما يرجىquot;، أما ما يخص الأرض وشئونها فيكون للحلال/الحرام فيها دور التابع للمنطق العلمي، أي منطق الصواب/الخطأ، فمن الجيد أن يكون لتطبيق الحلال/حرام نتائج إيجابية، وإلا فعلى هذه الثنائية أن تتراجع إلى مجالها الأساسي.
إن نظرة عامة إلى أحوال الكنيسة القبطية الأرثوذكسية من منظورنا هذا، تظهر أنها تعاني شروخاً بل وتصدعات هيكلية، سواء في الفكر أو في النظم التي تحكم العلاقات السائدة، وهو ما تعرضنا له تفصيلاً في مقالات عديدة، كما ناقشه مؤتمر العلمانيين الأول، الذي عقد بالقاهرة في نوفمبر 2006، وهو محور المؤتمر الثاني (26-27 أبريل 2007 بالقاهرة)، ويمكن أن نجمل ما نرصده من أزمات الكنيسة فيما يلي:
* ما لا تستشعره الكنيسة ويرصده المهتمون بالشأن الوطني المصري، من أن الوطن يمر بأخطر الظروف، نتيجة نشاط جماعة الإخوان المحظورة، والذي يسعى لتحويل مصر إلى دولة على النموذج الطالباني أو الإيراني، في حين أن الكنيسة وشعبها في حالة غياب تام، كأنهم يعيشون في كوكب آخر.
* تعتمد الكنيسة منهج الارتكان إلى القيادة السياسية في حل مشاكلها وتحقيق مطالبها، سواء عبر المطالبات في الغرف المغلقة، أو بالصراخ والعويل ولطم الخدود، والذي يمارسه ببراعة قطاع عريض من أقباط المهجر، دون أن يخطر على بال الكنيسة وجماهيرها المساهمة في تغيير الواقع البائس عبر الالتحام والاندماج مع باقي مكونات الوطن، لكنها تصر على المنهج الأبوي (البطريركي) بالاعتماد على الحاكم، غير ملتفتين إلى أن الحاكم يحافظ بالكاد الآن على بقائه وبقاء نظامه، في مواجهه تيارات التغيير من كل لون، وفي مواجهه وحش الإرهاب الرابض، والذي يكشر عن أنيابه بين الحين والآخر، كما حدث مؤخراً من جماعة الإخوان في جامعة الأزهر.
* تكرار وقائع وحكايات الشلح والعزل والإيقاف لكهنة وأساقفة، كل ذلك بأسلوب غامض، يشير بالاتهام لتكتلات شللية، ولطغيان الخلافات والنوازع الشخصية على معايير العدالة وحسن الإدارة، وما يصاحب هذا من تعدد حالات التذمر والاضطرابات الجماهيرية، وآخرها ما حدث في ثلاث كنائس في يوم واحد بنجع حمادي، وقبلها مظاهرات ومسيرات تأييد الأنبا كيرلس مطران نجع حمادي، والذي مازالت قضيته معلقة، ويبد أن الأمر مرتهن بالتوازن بين مركز القوة المعادي للرجل، وبين التأييد الشعبي له.
* يزداد الهمس عن التسيب في إدارة أموال الكنيسة (التي صارت بالملايين)، وتبديدها على كل المستويات من القاعدة إلى القمة، ليقال أن الأموال تأخذ طريقها من صناديق التبرعات إلى الجيوب والسيارات الفارهة والاستراحات، وفي أفضل الأحوال تهدر في هدم الكنائس وإعادة بنائها لتصبح قلاعاً خرسانية هائلة، تستفز عظمتها فقر الشعب الذي يئن اقتصادياً واجتماعياً، فيما سادته الإكليروس ndash;الذين يحرضونه على أن لا يحب العالم ولا الأشياء التي في العالم- يعيشون معيشة الأباطرة!!
* تحول الأديرة من مراكز تقشف وتعبد لله، بعيداً عن مغريات العالم، إلى مزارات سياحية ومنتجعات، كما تحولت بالنسبة للطامعين إلى نقطة انطلاق للوثوب إلى مراكز قيادة الكنيسة والمجتمع القبطي، بالحصول على رتبة الأسقفية، قفزاً فوق كل معايير الترقي في العالم المدني، وأولها معايير السن والكفاءة الإدارية والجدارة الشخصية، إذ أن كل المطلوب للقفزة المرجوة هو مهارة الالتحاق بمركز القوة الرابح، والتوصل لإثبات الولاء للقائد الأعلى (البابا) أو من يمسك بيده مقاليد الأمور فعلياً، كل ذلك في غيبة الشفافية، وعدم وجود أي معايير أو قواعد واضحة لاختيار الأساقفة والمطارنة.
* أصبحت الكنيسة والمجتمع الكنسي المصدر الأساسي لترويج الفكر الخرافي وتغييب العقل في المجتمع المصري بعامة، فرفات القديسين المزعومة انتشرت في جميع الكنائس، ليتوسل بها المؤمنون، ملقين بخطابات التوسل داخلها، والصور التي تنضح بالزيت والظهورات هنا وهناك، والعائدون من زيارات الأديرة بقنينات الزيت المقدس، وبالتراب الذي يمزج بالماء فيشفي جميع الأمراض، ليلتقط أخوة الوطن من المسلمين الأتقياء طرف الخيط، ليذهبوا بدورهم إلى أبعد مدى، في منافسة لتخريب العقل المصري.
* رفض قيادة الكنيسة الاستماع إلى أي رأي مخالف ومحاورته عقلانياً، والإصرار بكبرياء وعناد على الرأي الواحد والرجل الواحد، الذي يمسك بكل الأمور بقبضة حديدية، يقول أنها قبضة الحق، وهو المنهج الذي ينتج ما يعرف بمراكز القوى، حيث تشير جميع الأصابع بالاتهام إلى الرجل الثاني وجماعته، والتي يقال أنها جعلت من البابا مجرد واجهة تتستر خلفها، لتستبد كما تشاء، دون رادع من نظم أو قوانين، ودون اعتبار لرأي الشعب ومصالحه، كما يترتب على هذا المناخ استبعاد واضطهاد كل العناصر الجيدة والمخلصة في القيادة، والتزام البقية الصمت إيثاراً للسلامة، وهو مناخ بوليسي يليق بحزب نازي لا بكنيسة تقود مؤمنين إلى طريق السماء
لكل هذا نرى على مرمى البصر الفوضى قادمة، وإن كنا نعايش الآن فعلاً إرهاصاتها، بين انشقاق الأنبا مكسيموس وكنيسته التي يقول أنها شرق أوسطية، وانشقاقات في أقباط المهجر، والعديد من المطارنة المعزولين أو في طريقهم إلى العزل، فيما تغلي الدماء في عروق جماهير أبرشياتهم، وطوفان المهاترات والحروب على صفحات الشبكة الإلكترونية، وهذا هو الأنبا بفنوتيوس مطران سمالوط (الذي ترشحه الأقاويل لمحاكمة كنسية) يطالعنا بمشروع إصلاحي راديكالي سلفي، أشد قسوة وشمولية من الوضع الذي نرزح تحت نيره حالياً، ووسط هذا الخضم المضطرب تحاول جماعة العلمانيين السباحة، لتقدم نموذجاً علمياً مستنيراً وليبرالياً للإصلاح.
الفوضى إذن قائمة فعلاً، لكننا نتوقع أن تصل ذروتها فور انتقال قداسة البابا إلى الكنيسة المنتصرة في السماء، عندها سيعم الظلام، وسيختلط الحابل بالنابل كما يقولون، وعندما يدلهم الظلام فإن لنا أن نتوقع فجراً جديداً، فسوف تنبت ألف زهرة وزهرة، أو هذا على الأقل ما نتمناه!!
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات