(1-3)
أما قبل
في أوائل القرن التاسع عشر أدرك quot;هيجلquot; أن حضارة الغرب الصناعية، وسوقه العالمية، سوف تنسف المناخ الذي كانت الحضارات الأخرى ترى فيه نفسها، والذي كان يسبغه عليها إنتاجها الخاص.
هذا القضاء على الاختلافات بين الحضارات، وعلى سماتها المميزة، لن يترك لأمة سبيلاً للشعور بوجودها إلا بالتأكيد المجرد لذاتيتها المستمدة من تاريخها ولغتها، ومن مجموعة التكاليف والنواهي التي يمليها عليها دينها أو معتقداتها كنوع من quot;الحصانة الذاتيةquot;. فضلاً عن التصاعد المتنامي للأصولية والعنصرية، والنظر إلى المستقبل باعتباره ماضيًا سوف يتكرر.... أي ضياعه ضياعًا مؤكدًا!
لقد كان quot;هيجلquot; سابقا لأوانه بزمن طويل، ولم يكن من السهل قبل أكثر من مئتي سنة، أن يتنبأ أحد بالمأزق الراهن للهويات المختلفة في ظل حضارة كوكبية واحدة، وإن كان الحال في المجتمع العربي أشد تأزمًا.
هذه الفرضية أكدها quot;هشام شرابيquot; في كتابه العلامة: quot;البنية البطركية : بحث في المجتمع العربي المعاصرquot;، الصادر عن دار الطليعة ببيروت، عام 1987، حين قال: quot;أن البني البطركية للمجتمع العربي لم تحل محلها، في السنوات المئة الأخيرة، بني حديثة بالفعل. فهي علي العكس، قد تعززت واستمرت في أشكال مشوهة ملقحة بالحداثةquot; (ص: 20).
ومن الخصائص الأساسية للحداثة quot; أنها تمثل سياقا مرحليا يتم فيه الانتقال من نمط للمعرفة إلي نمط آخر مختلف جذريا، وهو بمثابة انقطاع عن أساليب التفكير التقليدية (غير العلمية) وتبن لأساليب تفكير جديدة (علمية). وقد عاني المجتمع العربي هذه التجربة من ثلاث زوايا رئيسية: زاوية quot; الهوية quot;، وزاوية quot;التاريخquot;، وزاوية quot;أوروباquot; أو quot;الغربquot;.quot; (ص: 24).
فقد كانت اليقظة العربية quot;صراع ثقافي واجتماعيquot; بين نظريتين: العلمانية، التي اتخذت الحضارة الغربية نموذجا ضمنيا أو صريحا. والأصولية الدينية، التي تمسكت بالإسلام بوصفه مصدر الشرعية والإلهام.
quot;وهكذا فإن الحركة العلمانية، المعبر عنها في الايديولوجيات الليبرالية والقومية والاشتراكية، والحركة الأصولية، المرتكزة علي عناصر الإسلام الإصلاحية والمحافظة والمتسيسة، قد قدمتا لليقظة العربية quot;نظامي الحقيقة quot; الأساسيين، اللذين سيطرا علي المراحل التالية للمجتمع البطركي الحديث. والواقع انه لا الحركة العلمانية ولا الحركة الاسلامية نجحت في انشاء مقال نقدي أو تحليلي بالمعني الصحيح، مقال يقدم حلا واضحا وفعليا لمشكلات الهوية والتاريخ والغرب.
quot;ان عملية التحدبث قد تمت في ظروف من التبعية أدت إلي نوع من الحداثة، مشوه وغير أصيل، أي إلي نظام بطركي حديث أو محدث وهو النظام البطركي الجديد القائمquot;. (ص: 34).
ومن ثم فإن quot; الخاصية الرئيسية للوعي (المحدث) هي نزعته إلي تحويل النماذج إلي أصنام. وهذا اتجاه نلاحظه في المجتمع العربي من خلال الطريقة التي يتم بها تلقف العلم واللباس والانتاج الفني، وحتي الاشتراكية كنماذج وعناصر مرشدة.... ويتصف هذا الوعي المنمذج بنزعتين مترابطتين ومتعاضدتين هما المحاكاة والامتثال. هكذا تثبت الأفكار والأعمال والقيم والمؤسسات أو تنقض، لا اعتمادا علي نهج نقدي مستقل، بل اعتمادا علي نموذج خارجي quot;. (ص:36).
بيد أننا نعثر وسط هذه الفرضية، وبالتحديد داخل المشروع العلماني في مصر، في النصف الأخير من القرن العشرين، علي نموذج مغاير لأحد رموز العلمانية الكبار وهو الدكتور فؤاد زكريا الذي سعي إلي تأصيل quot; منهج نقدي جديد quot; لم يلتفت إليه بالقدر الكافي حتي اليوم، يمكن التأسيس عليه، بنقده أو تطويره في ضوء التحولات الجديدة، وهو يوفر نوعا من الجدل الخصب بين التيارات الفكرية المختلفة في المرحلة الراهنة... بدلا من حالة الشلل الفكري والعجز النقدي، أوالتلاسن اللفظي بالتكفير أوالإرهاب... فما الجديد الذي يمكن أن نجده عند فؤاد زكريا اليوم؟
في أوائل القرن التاسع عشر أدرك quot;هيجلquot; أن حضارة الغرب الصناعية، وسوقه العالمية، سوف تنسف المناخ الذي كانت الحضارات الأخرى ترى فيه نفسها، والذي كان يسبغه عليها إنتاجها الخاص.
هذا القضاء على الاختلافات بين الحضارات، وعلى سماتها المميزة، لن يترك لأمة سبيلاً للشعور بوجودها إلا بالتأكيد المجرد لذاتيتها المستمدة من تاريخها ولغتها، ومن مجموعة التكاليف والنواهي التي يمليها عليها دينها أو معتقداتها كنوع من quot;الحصانة الذاتيةquot;. فضلاً عن التصاعد المتنامي للأصولية والعنصرية، والنظر إلى المستقبل باعتباره ماضيًا سوف يتكرر.... أي ضياعه ضياعًا مؤكدًا!
لقد كان quot;هيجلquot; سابقا لأوانه بزمن طويل، ولم يكن من السهل قبل أكثر من مئتي سنة، أن يتنبأ أحد بالمأزق الراهن للهويات المختلفة في ظل حضارة كوكبية واحدة، وإن كان الحال في المجتمع العربي أشد تأزمًا.
هذه الفرضية أكدها quot;هشام شرابيquot; في كتابه العلامة: quot;البنية البطركية : بحث في المجتمع العربي المعاصرquot;، الصادر عن دار الطليعة ببيروت، عام 1987، حين قال: quot;أن البني البطركية للمجتمع العربي لم تحل محلها، في السنوات المئة الأخيرة، بني حديثة بالفعل. فهي علي العكس، قد تعززت واستمرت في أشكال مشوهة ملقحة بالحداثةquot; (ص: 20).
ومن الخصائص الأساسية للحداثة quot; أنها تمثل سياقا مرحليا يتم فيه الانتقال من نمط للمعرفة إلي نمط آخر مختلف جذريا، وهو بمثابة انقطاع عن أساليب التفكير التقليدية (غير العلمية) وتبن لأساليب تفكير جديدة (علمية). وقد عاني المجتمع العربي هذه التجربة من ثلاث زوايا رئيسية: زاوية quot; الهوية quot;، وزاوية quot;التاريخquot;، وزاوية quot;أوروباquot; أو quot;الغربquot;.quot; (ص: 24).
فقد كانت اليقظة العربية quot;صراع ثقافي واجتماعيquot; بين نظريتين: العلمانية، التي اتخذت الحضارة الغربية نموذجا ضمنيا أو صريحا. والأصولية الدينية، التي تمسكت بالإسلام بوصفه مصدر الشرعية والإلهام.
quot;وهكذا فإن الحركة العلمانية، المعبر عنها في الايديولوجيات الليبرالية والقومية والاشتراكية، والحركة الأصولية، المرتكزة علي عناصر الإسلام الإصلاحية والمحافظة والمتسيسة، قد قدمتا لليقظة العربية quot;نظامي الحقيقة quot; الأساسيين، اللذين سيطرا علي المراحل التالية للمجتمع البطركي الحديث. والواقع انه لا الحركة العلمانية ولا الحركة الاسلامية نجحت في انشاء مقال نقدي أو تحليلي بالمعني الصحيح، مقال يقدم حلا واضحا وفعليا لمشكلات الهوية والتاريخ والغرب.
quot;ان عملية التحدبث قد تمت في ظروف من التبعية أدت إلي نوع من الحداثة، مشوه وغير أصيل، أي إلي نظام بطركي حديث أو محدث وهو النظام البطركي الجديد القائمquot;. (ص: 34).
ومن ثم فإن quot; الخاصية الرئيسية للوعي (المحدث) هي نزعته إلي تحويل النماذج إلي أصنام. وهذا اتجاه نلاحظه في المجتمع العربي من خلال الطريقة التي يتم بها تلقف العلم واللباس والانتاج الفني، وحتي الاشتراكية كنماذج وعناصر مرشدة.... ويتصف هذا الوعي المنمذج بنزعتين مترابطتين ومتعاضدتين هما المحاكاة والامتثال. هكذا تثبت الأفكار والأعمال والقيم والمؤسسات أو تنقض، لا اعتمادا علي نهج نقدي مستقل، بل اعتمادا علي نموذج خارجي quot;. (ص:36).
بيد أننا نعثر وسط هذه الفرضية، وبالتحديد داخل المشروع العلماني في مصر، في النصف الأخير من القرن العشرين، علي نموذج مغاير لأحد رموز العلمانية الكبار وهو الدكتور فؤاد زكريا الذي سعي إلي تأصيل quot; منهج نقدي جديد quot; لم يلتفت إليه بالقدر الكافي حتي اليوم، يمكن التأسيس عليه، بنقده أو تطويره في ضوء التحولات الجديدة، وهو يوفر نوعا من الجدل الخصب بين التيارات الفكرية المختلفة في المرحلة الراهنة... بدلا من حالة الشلل الفكري والعجز النقدي، أوالتلاسن اللفظي بالتكفير أوالإرهاب... فما الجديد الذي يمكن أن نجده عند فؤاد زكريا اليوم؟
حركة التاريخ
في مقاله quot; نظرتنا للغرب ذلك المتآمر الأزلي quot;، أظهر فؤاد زكريا هدفه الذي كان يسعي إليه من الكتابة في مختلف القضايا حين قال: quot; فقضية التنبيه إلي أخطائنا العقلية كانت هي الشغل الشاغل، والهم العظيم لكاتب هذه السطور في العقدين الأخيرين علي الأقل quot; (مجلة العربي ndash; (415)- 1993).
فما الذي حدث للعقل العربي في الربع الأخير من القرن العشرين؟ وما الذي كان يشغل زكريا من قبل؟.
إن معظم مقالات ومؤلفات فؤاد زكريا في تلك الفترة، مثل: quot; آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة quot;.. quot; خطاب إلي العقل العربي quot;.. quot; العرب والنموذج الأمريكي quot;.. quot; الصحوة الإسلامية في ميزان العقل quot;.. quot; الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة quot;.. quot; الثقافة العربية وأزمة الخليج quot; وغيرها، تكشف عن فكرة أساسية وهي: أن أغلب القضايا المثارة في ثناياها، كان يفترض أن يكون النزاع حولها قد حسم منذ عهد مضي، وأن هذه المجموعة البسيطة من الأفكار والمفاهيم المتناثرة في كتاباته، كان ينبغي أن تكون قد استقرت لدينا منذ ما يقرب من القرن.
وهنا يبدو المأزق الحقيقي الذي تعرض له أكبر مشروع ثقافي للتغيير الاجتماعي في القرن العشرين، الذي لم يتوافق أبرز فرسانه مع حركة التاريخ في المجتمع العربي، ومع هذا، أصر في شجاعة علي الإمساك براية العقلانية والتنوير، والإبقاء عليها مرفوعة عاليا، رغم عواصف المتعصبين وسطوة المتعملقين.
فقد أجبرته الانكسارات والارتدادات المتلاحقة والمتعاقبة للعقل العربي في الربع الأخير من القرن الماضي، علي إعادة مناقشة الأسئلة والقضايا نفسها التي بدأنا بها القرن، ومن ثم تفنيد الأخطاء العقلية نفسها التي كان يفترض أن نكون قد تجاوزناها، وهذا كله وسط مناخ غير ممهد علي الإطلاق.
لقد كان فؤاد زكريا من أوائل المفكرين الذين استشعروا حجم المأساة مبكرا، بعد أن شهد في عقد واحد (1967 ndash; 1977) التحولات والانقلابات الدرامية العنيفة التي زلزلت ركائز هذا العقل ومنجزاته: هزيمة يونيو 67، حرب أكتوبر 73، تصاعد المد الديني وضرب قوي اليسار، زيارة الرئيس السادات لإسرائيل، حيث اختلطت الأوراق، وتبدلت أماكن اللاعبين، واشتدت القيود المفروضة علي المثقفين الجذريين، مما دفع معظمهم إلي المنفي الاختياري خارج مصر، أما الذين بقوا في الداخل فعاشوا منفي من نوع آخر، وأصبح لسان حال الجميع قول الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش: quot; الوطن ليس دوما في الوطن، والمنفي ليس دائما في المنفي quot;.
ففي 9 مايو عام 1977، كتب فؤاد زكريا مقالا قصيرا في مجلة quot; روز اليوسف quot;، تحت عنوان quot; أزمة العقل العربي quot;، جاء فيه: quot; الظروف التي يعمل فيها المفكرون تتجاوز قدراتهم، فنحن نلتزم جانب الحذر في تعبيراتنا، ونقول شيئا ونخفي أشياء، ونعبر عن أنفسنا بطرق ملتوية، ونفكر دائما في الأصداء المحتملة لما نكتبه، والقيود التي تكبل العقل العربي من جميع جوانبه منعت وصوله إلي مرحلة التحرر، وكلما ازداد هذا العقل اقترابا من مناقشة الجذور العميقة التي يعيش عليها المجتمع، اشتدت القيود التي تمنعه من الحركة، ومن المستحيل أن يصل إلي مرحلة التحرر إلا إذا استطاع أن يناقش الجذور quot;.
فما الذي حدث للعقل العربي في الربع الأخير من القرن العشرين؟ وما الذي كان يشغل زكريا من قبل؟.
إن معظم مقالات ومؤلفات فؤاد زكريا في تلك الفترة، مثل: quot; آراء نقدية في مشكلات الفكر والثقافة quot;.. quot; خطاب إلي العقل العربي quot;.. quot; العرب والنموذج الأمريكي quot;.. quot; الصحوة الإسلامية في ميزان العقل quot;.. quot; الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة quot;.. quot; الثقافة العربية وأزمة الخليج quot; وغيرها، تكشف عن فكرة أساسية وهي: أن أغلب القضايا المثارة في ثناياها، كان يفترض أن يكون النزاع حولها قد حسم منذ عهد مضي، وأن هذه المجموعة البسيطة من الأفكار والمفاهيم المتناثرة في كتاباته، كان ينبغي أن تكون قد استقرت لدينا منذ ما يقرب من القرن.
وهنا يبدو المأزق الحقيقي الذي تعرض له أكبر مشروع ثقافي للتغيير الاجتماعي في القرن العشرين، الذي لم يتوافق أبرز فرسانه مع حركة التاريخ في المجتمع العربي، ومع هذا، أصر في شجاعة علي الإمساك براية العقلانية والتنوير، والإبقاء عليها مرفوعة عاليا، رغم عواصف المتعصبين وسطوة المتعملقين.
فقد أجبرته الانكسارات والارتدادات المتلاحقة والمتعاقبة للعقل العربي في الربع الأخير من القرن الماضي، علي إعادة مناقشة الأسئلة والقضايا نفسها التي بدأنا بها القرن، ومن ثم تفنيد الأخطاء العقلية نفسها التي كان يفترض أن نكون قد تجاوزناها، وهذا كله وسط مناخ غير ممهد علي الإطلاق.
لقد كان فؤاد زكريا من أوائل المفكرين الذين استشعروا حجم المأساة مبكرا، بعد أن شهد في عقد واحد (1967 ndash; 1977) التحولات والانقلابات الدرامية العنيفة التي زلزلت ركائز هذا العقل ومنجزاته: هزيمة يونيو 67، حرب أكتوبر 73، تصاعد المد الديني وضرب قوي اليسار، زيارة الرئيس السادات لإسرائيل، حيث اختلطت الأوراق، وتبدلت أماكن اللاعبين، واشتدت القيود المفروضة علي المثقفين الجذريين، مما دفع معظمهم إلي المنفي الاختياري خارج مصر، أما الذين بقوا في الداخل فعاشوا منفي من نوع آخر، وأصبح لسان حال الجميع قول الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش: quot; الوطن ليس دوما في الوطن، والمنفي ليس دائما في المنفي quot;.
ففي 9 مايو عام 1977، كتب فؤاد زكريا مقالا قصيرا في مجلة quot; روز اليوسف quot;، تحت عنوان quot; أزمة العقل العربي quot;، جاء فيه: quot; الظروف التي يعمل فيها المفكرون تتجاوز قدراتهم، فنحن نلتزم جانب الحذر في تعبيراتنا، ونقول شيئا ونخفي أشياء، ونعبر عن أنفسنا بطرق ملتوية، ونفكر دائما في الأصداء المحتملة لما نكتبه، والقيود التي تكبل العقل العربي من جميع جوانبه منعت وصوله إلي مرحلة التحرر، وكلما ازداد هذا العقل اقترابا من مناقشة الجذور العميقة التي يعيش عليها المجتمع، اشتدت القيود التي تمنعه من الحركة، ومن المستحيل أن يصل إلي مرحلة التحرر إلا إذا استطاع أن يناقش الجذور quot;.
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات