تعبير الأقلية، في الأدب السياسي والدستوري، يشير إلي مجموعة غريبة تعيش في حمي وطن أو قوم يرعونها وهي، بالضرورة، منقوصة الحقوق والواجبات. وفي بلد بوتقة لا يعني هذا التعبير شيئا، فأنت لا تستطيع، بهذا الفهم، الحديث ndash; من الناحية الدستورية ndash; عن الأقلية الزنجية في أمريكا، أو الأقلية الملايوية في سنغافورة، أو الأقلية الويلشية في المملكة المتحدة، فهؤلاء أصحاب حق في الأرض لهم ما لأهلها كلهم من حقوق وعليهم ما علي أهلها جميعا من واجبات.
علي ان تعبيري الأقلية والأغلبية أيضا اصطلاحان احصائيان لا معني لأي واحد منهما دون توصيف: فقد تشير الأقلية والأغلبية إلي الدين، وقد تشير إلي اللغة، وقد تشير إلي المنبت العرقي، وقد تشير إلي الجنس (الرجال والنساء). لهذا فإن الاختيار الانتقائي لمثل هذه الاصطلاحات لن يفيد الحوار الوطني في شئ بل يوقع الناس في محنة أبدية، فإن اختيار واحد، مثلا، الدين لتمييز أهل البلد فما الذي يمنع الآخر من اختيار الأصل العرقي.
في السنوات الأخيرة وعلى امتداد الساحة السياسية والثقافية العالمية تصاعد الاهتمام بمسألة حقوق الإنسان والديمقراطية ومع تفاقم مشكلة الأقليات وتصاعد حدة التوتر جراء الصراعات والتصادمات بين أقليات وأغلبيات، وانعكاساتها الدولية أدركت الأمم المتحدة مخاطر مشكلة الأقليات في العالم وتداعياتها، فكان الإعلان العالمي الخاص بحقوق الأفراد المنتمين لأقليات قومية أو اثنية أو لغوية أو دينية، والصادر عن لجنة حقوق الإنسان واللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات، والمصدق عليه من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18/12/1992، هو ذروة العطاء القانوني الدولي لمسألة الأقليات، فهو الأكثر وضوحا ويعتبر ثورة حقيقية في القانون الدولي، حيث ينص في أحكامه علي حقوق الأقليات في المشاركة السياسية وصنع القرار السياسي، واحترام مبدأ المواطنة المتساوية لكل أعضاء المجتمع بغض النظر عن اختلاف الدين.
تأكد ذلك في المؤتمر العالمي الثاني لحقوق الإنسان الذي انعقد في فيينا فيما بين 14 - 26 يونيو عام 1993 والذي حضرته 171 دولة، حيث نص هذا البيان على ضرورة التزام الدول الكامل والفعال بحقوق الإنسان والحريات السياسية.
إن بيان فيينا مع بقية الإعلانات العالمية الخاصة بقضية حقوق الإنسان، هو خطوة متقدمة على طريق حل مشكلة الأقليات، هذه المشكلة التي باتت تهدد الأمن والسلام في أكثر من منطقة منها على الأخص منطقة الشرق الأوسط التي باتت مهددة بالتقسيم، حيث تتواجد جميع أنواع الأقليات كالأقباط في مصر والجنوبيون في السودان والأشوريين والأرمن والأكراد والبربر وغيرهم في كل من العراق وتركيا وإيران وسوريا ولبنان والمغرب الكبير.
ومن المصادفات العجيبة، رغم ان تفسيرها ليس متعذرا، تزامن صدور هذا البيان مع ظهور العولمة وانتعاش الاصوليات في العقد الأخير من القرن الماضي، ومن ثم تصدرت مسألة الأقليات بقوة واجهة المشهد، وحسب quot;ديفارجquot; فى كتابه quot;العولمةquot;: quot; فإن العولمة إذ تنشر فى كل أرجاء الأرض مرجعيات وقيماً غربية، تستثير ردود أفعال الثقافات الأخرى التى تشعر أنها مهددة بالزوال بسبب العقلانية والعلمنة. ومن هنا يأتى تفجر الحركات الأصولية باعتبارها سعياً للنقاء المفقود، ولعصر ذهبى ترغب فى استعادته لحظة البداية حيث لم يفسد الإيمان بعد، أكثر منها محاولات لا شعورية لتحديث العقيدة، وهوما يؤدي إلي تفكيك الدولة القومية التي ظهرت بموجب معاهدة quot; ويست فاليا quot; عام 1648، وينهي بالتالي فكرة الوطن والمواطنة.quot;
وعلي سبيل المثال فإن نظرة الأصوليين، لأنفسهم دوما كإمتدد للخارج، للعالم الذي ينتمون إليه باللسان والوجدان، يولد عند أكثرهم إحساس غريب بأنهم إلي ذلك الخارج أقرب منهم إلي أهليهم الذين يشاركونهم الأرض، أي يشاركونهم الوطن. وهو ما ينتج الكارثة في بلد بوتقة، كالعراق والشام ومصر والسودان والمغرب، لأنها تدفع الطرف الآخر إلي اللواذ بمن يحسبونهم أكثر قربي لهم من خارج حدود هذا الوطن.
وللأسف الشديد مازالت معظم دول منطقة الشرق الأوسط تقلل من شأن التطورات العالمية المتسارعة، وتتجاهل عن عمد القضايا الإنسانية الناجمة عن عدم حل مشكلة الأقليات بل وتنكر وجود هذه الأقليات أصلا بزعم أن هذه الأقليات من نسيج واحد ولحمة واحدة مع الأغلبية في الوطن، مؤكدة علي أن الدستور ينص ويقرر مساواة جميع المواطنين أمام القانون، بصرف النظر عن اللون أو الدين أو الجنس.
بيد أن هناك فارق كبير بين النص والواقع، فقد يتضمن الدستور وهو أسمى القوانين وأعلاها شأنا نصوصا عن المساواة والحرية واحترام حقوق كل الأفراد، ثم يكشف لنا الواقع والتطبيق عن انتهاك هذه النصوص الدستورية وبالتالي يتأكد الانفصال بين الواقع ونصوص القانون.
ان نجاح نصوص القانون تقاس دائما بمدى أثرها وتعبيرها عن الواقع، فكيف يمكن لهذه النصوص أن تحقق الإنصاف والمساواة في ظل انتهاك شبه يومي في الواقع المعاش، فيحدث الفصل بين النص والواقع.
لقد كشف تقرير الحريات الدينية الأمريكي الأخير 2007، الذي يصدره مكتب الديموقراطية وحقوق الإنسان والعمال بوزارة الخارجية الأمريكية في شهر سبتمبر من كل عام، عن الفجوة الرهيبة بين النصوص والممارسات في معظم دول المنطقة، مؤكدا علي ان الحرية الدينية جوهرية لسبب بسيط هو quot; أنها تدعم منظومة الحريات الأساسية الأخرى، التي تشكل الدين الجديد لحقوق الإنسان، فهي متصلة اتصالاً عضوياً بحرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتماع، وحق الأختلاف، وحق الخطأ أيضا quot;.
كما جاء قرار الكونجرس الأخير بشأن تقسيم العراق إلي ثلاث دويلات علي أساس عرقي وطائفي، ليؤكد أن المسألة جد لا هزل، وان شبح التقسيم الذي كان مستبعدا بالأمس أصبح قريبا اليوم.
وهناك سيناريوهات ثلاث محتملة بالنسبة لمشكلة الأقليات في هذه المنطقة، تتمثل في: تغيير الجغرافيا بالتقسيم أو تعديل الحدود، وإما بتغيير البشر بالانصهار القسري أو الإبادة أو الهجرة، وإما تغيير المؤسسات بجعلها اكثر ديمقراطية اعتمادا على فكرة المواطنة..... فماذا نحن فاعلون؟
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]
أية إعادة نشر من دون ذكر المصدر إيلاف تسبب ملاحقة قانونية
التعليقات