&بداية صيف عام 1983،دعت جامعة "السربون" الفرنسيّة المرموقة الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس(1899-1986) لإلقاء محاضرة بلا عنوان ،وبلا موضوع محدّد.فكان يوما مشهودا بالمعنى الحقيقي للكلمة إذ غصّت القاعة الفسيحة بعدد هائل من الطلبة والمثقفين والمعجبين بصاحب "كتاب الرمل".والذين لم يجدوا لأنفسهم مكانا في القاعة آضطرّوا الى الاستماع اليه واقفين خارجها.وكان من بين الحضور الشاعر الكبير هنري ميشو الذي دخل القاعة بخطوات بطيئة ،واضعا على عينيه نظّارات سوداء،ومرتديا بدلة رماديّة.وتحدث بورخيس بلغة موليير بهدوء وأناة مثبتا للحضور أنه عارف بدقائق هذه اللغة ،وبشواردها،ومستعرضا كوكبة من الشعراء الذين يحبهم،ويعجب بأعمالهم من أمثال رونسار،وفيكتور هوغو،وبودلير ،ورامبو،وفرلين الذي يرى أنه يفوق شعراء زمنه شاعريّة .ويعود ذلك بحسب رأيه الى أن قصائده هي عبارة عن مقطوعات موسيقيّة لا تختلف جمالا ورقّة عن بعض المقاطع من سمفونيّات بيتهوفن،وموتزارت،وباخ،وبراهمس.ولم يتحدث بورخيس لا عن سارتر ،ولا عن كامو،ولا عن جيد،ولا عن بروست.وربما لتحاشي الحرج والسؤال عن أسباب عزوفه عن الحديث عنهم،آنتقل الى الادباء الانجلو-ساكسونيين الذين يكنّ لهم اعجابا كبيرا من أمثال مارك توين،وكولريدج،واللورد بايرون،وكيتس،وويليام بليك،وستفنسون،وادغار الن بو.وكان الحضور ينتظر منه ان يشير حتى ولو بمجرّد الاشارة الى كتاب امريكا الجنوبيّة من امثال ماركيز وفارغاس يوسا واليخو كاربانتيي غير انه لم يفعل ذلك.ولم يكن الامر مفاجئا ولا جديدا.فقد كان بورخيس يظهر نحوهم نوعا من التجاهل،بل لعله كان يحتقر اعمال البعض منهم.وعندما أحرز ماركيز على جائزة نوبل للاداب ،رفض التعليق على ذلك.ومن المؤكّد أن الامر حزّ في نفسه كثيرا إذ أنه كان على يقين من أنه الاجدر بنيلها.وقد يكون على حق!..

وفي خريف عام 1984،كنت اتجوّل بصحبة صديق في بولفار "سان-جارمان"بباريس. وفجأة أشار الصديق الى واجهة مقهى "الفلور"الذي يرتاده المشاهير من أدباء فرنسا وشعرائها ،وقال :”ها بورخيس!”.وفي رمشة عين كنا واقفين امامه.وكان مصحوبا بماريا كوداما التي سوف يتزوجها في السنة الاخيرة من حياته هو الذي آختار العزوبيّة بعد ان فقد بصره وهو في سنّ الاربعين.حيّيناه بحرارة فردّ على تحيّتنا بأدب ولطف.ولمّا اعلمناه اننا من تونس،شرع يتحدث الينا عن الاندلس وعن معنى بعض الكلمات العربيّة التي تعلمها عندما أقام في قرطبة في سنوات شبابه.وقد عبّر لنا عن اعجابه بالموشحات الاندلسيّة.وكان صديقي يقاطعه من حين لآخر مسرعا في الكلام ،ومبديا توترا واضحا في صوته.وربما آنزعج بورخيس بسبب ذلك.لذا خفّ حماسه للحديث معنا وقال بإنه متعب،ويرغب في العودة الى الفندق.وقبل أن ننسحب طلبت منه ان كان بالامكان اجراء حوار معه لمجلة عربية فقال لي:”تعال غدا الى الفندق الذي اقيم فيه في شارع "السين" وسوف ارى ان كنت قادرا على ذلك!”...ذهبت في الموعد المحدد الى الفندق الذي اعتاد بورخيس النزول فيه في كل زيارة يؤديها الى باريس.وهو نفس الفندق الذي توفي فيه اوسكار وايلد عام 1900.بل أنه يحرص على أن يسكن في نفس الغرفة التي لفظ فيها صاحب رائعة"صورة دوريان غراي"انفاسه.هتفت له من مكتب الاستقبال فجاءني صوته متعبا ليعتذر لي عن اجراء الحوار.ولا تزال خيبتي مع صاحب "تقرير برودي" تؤلمني الى حد هذه الساعة!...
والبارحة وجدت نفسي ظامئا الى ينابيع بورخيس فغرقت في قراءة البعض من قصصه.ومرة أخرى فتنتني عنده لعبة الأنا والآخر.”أنا الآخر" يقول رامبو.وأما بروخيس فيقول:”أنا الآخر والآخر هو أنا أيضا".وهذا ما يتجلى في العديد من قصصه.ففي قصة "الخالد" ،هو يتحدث عن هوميروس قائلا:”عندما تقترت النهاية،لا تتبقّى صور الذكرى.فقط تتبقّى الكلمات.وليس من الغريب في شيء أن الزمن يخلط بين الذين سمّوني ذات يوم ،وبين اولئك الذين كانوا رموزا لمصير الإنسان الذي رافقني على مدى قرون طويلة.كنت هوميروس،وبعد حين سأكون لا أحد ،مثل اوليس.بعد حين سأكون كلّ الناس.سأموت"...وفي قصة "حكاية المحارب والأسيرة"،يختطف الهنود الحر شابّة بريطانيّة شقراء.وبعد سنوات ،تنسى هذه الشابة حياتها القديمة،وتتخلى عن تقاليد بلادها الأصلية،لتصبح "هنديّة حمراء" تشرب من دوم الشاة الذبيحة،وتساير حياة مختطفيها كما لو أنها منهم.وأما المحارب في نفس القصة ،فيتخلى في النهاية عن جنوده لينضمّ الى سكان المدينة التي كلّف بغزوها وتدميرها.
وفي قصة" سيرة تاديو ايزيد ورو كروز"،يكلف الضابط كروز بالقبض على جنديّ فارّ من كتيبته يدعى مارتين فارو.وفي النهاية ،وعندما كان الجنود يحاصرون الجنديّ الفارّ،ويهمون بقتله،ينزع كروز لبساه العسكريّ بعد أن أدركأن يتماثل معه،ويصيح قائلا بإنه لن يسمح أبدا بقتل "جنديّ جسور" ذلك أن قتله "جريمة لا تغتفر".
وبورخيس يعشق هذه اللعبة ،لعبى الأنا والآخر،ويوحي لنا في أكثر من مرة بأنه يريد أن يكون الآخرين أيضا،أي اولئك الذين يتماهى معهم أدبيا وفلسفيّا.فهو هوميروس الأعمى سائحا في بلاد اليونان،وهو شوستر روايا الأساطير القديمة ،وهو شكسبير في تراجيديّاته الخالدة،وهو لاوتسو في حكمه ،وهو دانتي في رحلته العجيبة الى الجحيم والجنة،وهو آبن رشد مسائلا أرسطو،وهو الكاتب المجهول في "ألف ليبلة وليلة"،وهو سارفانتس محاربا طواحين الريح،وهو ...لا أحد في الأبدية!
&