لم تكن عملية ايصال المئات من الوثائق، وآلاف الصور التي توثّق جرائم بشار الأسد ضدّ السوريين، إلى المحققين الدوليين، مهمة سهلة بالمرة، لكنّ النظام أخطأ في استعانته بشخصيات لا تكنّ له أي احترام أو ولاء، فساعد هؤلاء على توثيق تلك الجرائم ثم سرّبوها إلى المحققين.


لندن: قطع المحقق السوري رحلته المعهودة 100 مرة تقريبًا، بالشاحنة العتيقة نفسها دون أي حمولة. &

كانت المسافة الى الحدود تمتد نحو 65 كلم عبر 11 نقطة تفتيش يتمركز فيها مقاتلون من المعارضة، حيث اصبحوا يعتقدون انه محامٍ من اهل المنطقة، حكمت مصائبه في زمن الحرب بأن يمر على مقطع الطريق الخاضع لسيطرتهم.

وكان احيانًا يجلب لهم وجبات خفيفة وماء ويحرص على شكرهم لحماية المدنيين من امثاله.

وذات يوم من ايام الصيف، حمَّل شاحنته بأكثر من 100 الف وثيقة رسمية سورية كانت مدفونة في حفر ومخبأة في مغارات وبيوت مهجورة، متجهًا بها نحو الحدود.

انطلق في ساعة الغروب تتقدمه ثلاث سيارات استطلاع اكدت إحداها لاسلكيًا عدم وجود نقاط تفتيش جديدة.&وكانت الحدود مغلقة ولكن جنود البلد المجاور سمحوا له بالمرور.

واستمر في رحلته الى أن وصل الى سفارة غربية، حيث ترك حمولته لإيصالها بطريقة مأمونة الى المحامي الاميركي كريس انغيلز.

إلى أوروبا الغربية

وبعد عقد امضاه انغيلز في تدريب كوادر العدالة الجنائية الدولية في البلقان وافغانستان وكمبوديا، يقود الآن وحدة جرائم النظام السوري في لجنة العدالة والمساءلة الدولية التي شُكلت عام 2012.&

وتمكن اشخاص يعملون للجنة خلال السنوات الماضية من تهريب ما يربو على 600 الف وثيقة حكومية خارج سوريا، كثير منها وثائق من اجهزة استخباراتية وأمنية سرية للغاية. وفي مقر اللجنة في اوروبا الغربية تُمسح كل وثيقة ضوئيًا وتُعطى رقمًا وتُخزن تحت الأرض.

وتكلل عمل اللجنة مؤخرًا بمذكرة قانونية في 400 صفحة تعزو التعذيب المنهجي وقتل عشرات آلاف السوريين الى سياسة مكتوبة رُسمت بموافقة رئيس النظام بشار الأسد، وينفذها جلاوزة النظام الذين يرفعون تقارير عن ارتكاباتهم الى مسؤوليهم في دمشق.

توثيق غنيّ&

وقال ستيفن راب الذي عمل ست سنوات سفير الولايات المتحدة المتجول لقضايا جرائم الحرب، لمجلة نيويوركر، إن توثيق اللجنة لجرائم النظام السوري "أغنى من أي شيء رأيته وأي شيء تابعته في هذا المجال". ولكن مجلس الأمن الدولي وحده القادر على احالة جرائم النظام الى المحكمة الجنائية الدولية.

وفي ايار/مايو 2014 استخدمت روسيا والصين حق الفيتو لإجهاض مشروع قرار يمنح المحكمة ولاية على الجرائم التي ارتكبتها جميع اطراف النزاع.&

في هذه الأثناء، أصبح احصاء عدد القتلى في سوريا مهمة مستحيلة تقريبًا، وتوقفت الأمم المتحدة عن محاولة احصائهم منذ اكثر من عامين.

ولكن المنظمات التي تتابع النزاع تقدر عدد القتلى حتى الآن بنحو 500 الف شخص مع تصاعد وتيرة القتل كل عام ونزوح زهاء 5 ملايين سوري الى البلدان المجاورة واوروبا.

خلية أزمة بعثية&

حين اندلعت الانتفاضة ضد نظام الأسد في آذار/مارس 2011 شُكلت "خلية ازمة" كانت تجتمع كل ليلة في مقر القيادة القطرية لحزب البعث وسط دمشق لبحث استراتيجية اخماد المعارضة.

وكان هذا يتطلب معلومات مفصلة عن كل احتجاج. لذا طلبت الخلية تقارير من اللجان الأمنية والأجهزة الاستخباراتية في كل محافظة ثائرة. وقررت خلية الأزمة توظيف شخص لتولي العمل الورقي.&

كان احد المتقدمين عبد المجيد بركات، وهو شاب في الرابعة والعشرين نال مؤخرًا شهادة الماجستير في العلاقات الدولية، وكان يعمل في وزارة التربية.

وخلال مقابلته في نيسان/ابريل درس مسؤول بعثي كبير سيرة حياته. وحين سُئل بركات كيف يحل الأزمة الناشئة اجاب ان الحكومة لكي تتفادى أي رد فعل مسلح على قمع المعارضة يجب ان تقدم بعض التنازلات وتنفذ اصلاحات معتدلة. &

معارض لتحليل البيانات!

وفوجئ بركات الذي انضم في بداية الاحتجاجات الى احدى اللجان الثورية الأولى بتعيينه موظفًا في مقر خلية الأزمة. فالنظام في عجالته لرفع كفاءة خلية الأزمة قام بتوظيف معارض لتحليل تقارير أمنية سرية من سائر انحاء البلاد.

وكانت أكثر من 150 صفحة تصل الى مكتب بركات في غالبية الأيام عن الأخطار التي تهدد النظام، من خط الشعارات على الجدران الى ما يُنشر على فايسبوك وصولاً الى التهديدات الجدية مثل وجود مجموعات مسلحة. &وكان بركات يقرأ كل شيء ويكتب ملخصات يقدمها الى مسؤوله الذي يرفعها الى خلية الأزمة لدراستها في كل اجتماع. &

لم يُسمح قط لبركات بدخول غرفة الاجتماعات، ولكنه كان يرى من يحضرها، بمن فيهم قياديون في حزب البعث ونائب الرئيس وشقيق الأسد الأصغر ماهر، الذي ادرجه الاتحاد الاوروبي على القائمة السوداء بوصفه "المشرف الرئيسي على العنف ضد المتظاهرين".

بداية التسريب&

بعد فترة قصيرة على عمل بركات في مقر خلية الأزمة بدأ يسرب الوثائق. وكان يصور الوثائق في دورة المياه ويرسل النسخ المصورة الى اشخاص في المعارضة على صلة به.

وكانت خطته ان يسرق اكبر عدد ممكن من المعلومات ثم يغادر سوريا. &

ولكن كل تسريب كان يزيد شكوك مقر خلية الأزمة ويزيد احتمالات ان يكتشف النظام آجلا أو عاجلا وجود مدسوس فيه.

وقام رئيس الخلية المركزية لادارة الأزمة باستجواب بركات عن التسريبات، فيما قال موظف آخر في مقر الأزمة لبركات ان سكرتيره يتجسس عليه.

فقرر بركات ان يغادر سوريا ولكن بعد ان يسرق محاضر الاجتماعات التي كانت محفوظة في مكاتب اعضاء الخلية.

كما خطط لسرقة المراسلات بين خلية الأزمة وديوان الرئاسة ومكتب رئيس الوزراء ومكتب وزير الداخلية. &وذات يوم من ايام استراحة ازمة الخلية في شباط/فبراير، نهب بركات مكاتبها واخذ كل ما يستطيع ان يحمله من الوثائق قبل ان ينطلق بسيارته نحو 400 كلم شمالاً باتجاه الحدود التركية. &

إلى المحكمة الجنائية الدولية&

كانت قوات النظام تسيطر على المعبر الحدودي. وتمكن بركات من التسلل والاقامة في فندق باسم مستعار قبل ان يكتشف احد في دمشق غيابه. وبعد شهر حين تأكد بركات من مغادرة والدته سوريا بسلام خرج الى العلن، وقال في تصريحات تلفزيونية انه يريد ان تذهب الوثائق التي هربها الى المحكمة الجنائية الدولية. &

كان مصدر الكثير من الوثائق التي سرقها بركات أو وقعت بأيدي فصائل المعارضة، اجهزة امنية ـ استخباراتية بعيدة عن العاصمة دمشق.

وهي تشير الى قرارات اتخذتها الخلية المركزية لإدارة الأزمة ولكن لاستكمال السلسلة كانت لجنة العدالة والمساءلة الدولية تحتاج الى ملاحظات من هذه الاجتماعات.

وقال بركات الذي يعيش في اسطنبول لمجلة نيويوركر إن المحامي كريس انغيلز ومحللاً زاراه في عام 2014 لفحص وثائقه.

واضاف "انهما أمضيا ثلاثة ايام هناك يسألان بتفاصيل مستفيضة عن العمل الذي قدمت به وكيف كانت تُعقد الاجتماعات".

وقاما ايضا بتصوير الأوراق المهربة واكد بركات لهما انه سيقدم النسخ الأصلية إذا أُحيلت القضية الى المحكمة الجنائية الدولية.

الأوامر

مساء 5 آب/اغسطس 2011 عقدت خلية الأزمة اجتماعها الاعتيادي في مقر القيادة القطرية لحزب البعث.&وبحسب وثائق لجنة العدالة والمساءلة الدولية، فإن اعضاء في الخلية عزوا انتشار الاحتجاجات الى "التراخي في التعامل مع الأزمة وضعف التنسيق بين الأجهزة الأمنية".

واصدرت خلية الأزمة اوامر، اولاً بتنفيذ حملات دهم يومية تستهدف منظمي الاحتجاجات، "ومن يشوهون صورة سوريا في الاعلام الخارجي".

وثانيًا، بعد "تطهير كل قاطع"، على رجال الأمن التنسيق مع البعثيين وميليشيات الأحياء لضمان عدم عودة هؤلاء الناشطين.

وثالثا، تُشكل لجان تحقيق مشتركة لاستجواب المعتقلين وتُرسل النتائج الى سائر فروع الأجهزة الأمنية لاستخدامها في تحديد أهداف جديدة. &

واصبحت هذه السياسة أحد الأركان الأساسية في قضية لجنة العدالة والمساءلة الدولية ضد مسؤولين في النظام السوري.

وبين وثائق بركات من دمشق و600 الف صفحة جمعتها اللجنة من سائر انحاء سوريا، تمكن محللون في اوروبا من اقتفاء هذه الأوامر عبر سلاسل قيادية متوازية عديدة وصولاً الى خلية الأزمة.

وكان المسؤول الأول هشام اختيار رئيس مكتب الأمن القومي في حزب البعث.

الاعتقالات

في مئات الافادات التي قدمها شهود وجدت لجنة العدالة والمساءلة الدولية انماطًا ثابتة في التحقيق تمارسها جميع فروع الأجهزة الأمنية. إذ كان الأشخاص يُعتقلون عملاً بسياسة خلية الأزمة.

والى جانب "تحديد اهداف جديدة"، كانت نتائج التحقيق توزع على الأجهزة الأمنية المختلفة. ويُعتقل الأشخاص عادة في ظروف لاانسانية طيلة اشهر أو سنوات دون تهمة أو محاكمة.

ولم تكن الاعترافات المنتزعة بالتعذيب تخدم اغراضًا واضحة لجمع المعلومات، ولكنها تبرقع عملية الاعتقال بستار قانوني، وإن كان مهلهلاً. فبعد الاعتراف بارتكاب جرائم عنيفة يمكن ان يواجه الناشطون المعارضون تهماً خطيرة وإذا أُدينوا بها يبقون محبوسين سنوات. كما تكرس الاعترافات الوهم القائل بوجود مؤامرة واسعة ضد سوريا نتيجة إقرار المعتقلين بالتحريض على الفتنة أو الخيانة. &

وكان الخط الأخير لسياسة خلية الأزمة يأمر رؤساء الفروع الأمنية بأن يقدموا دورياً أسماء رجال الأمن "غير الحازمين أو غير المتحمسين".

وفي احدى الحالات الموثقة، توسل المحقق بالمعتَقل الذي يعذبه أن يعترف بارتكاب جريمة لكي لا يتهمه النظام بالتقصير في عمله.

المستشفى 601

يروي الناشط مازن حمادة الذي هرب الى هولندا انه تعرض الى التحقيق والتعذيب سبع أو ثماني مرات.

ونتيجة التعذيب أُصيب بالتهاب في عينه التي بدأت تتقيح وكان مصاباً بالغنغرينا في ساقه ويبول دمًا.

وذات يوم في اوائل عام 2013، بعد نحو عام قيد الاعتقال، ابلغه ضابط التحقيق أنه سيُرسَل الى المستشفى رقم 601 العسكري في قاعدة المزة. وقال له أن ينسى اسمه وان اسمه الآن هو 1858.

كان حمادة سمع بالمستشفى 601 من معتقلين آخرين أُرسلوا اليه، والقلة الذين عادوا منه حذروه قائلين: "انه ليس مستشفى بل مسلخ". ورغم حالة حمادة فإن حراسه ضربوه اثناء نقله الى المستشفى.

واستخدم احدهم انبوبًا اخضر في ضربه. وكان رجال الأمن في سوريا يسخرون من المعتقلين بتسمية هذه الأداة الأخضر الابراهيمي، الذي كان وقتذاك المبعوث الدولي الى سوريا.

استفاق حمادة ذات ليلة وطلب استخدام دورة المياه لقضاء حاجة. وانهال عليه احد الحراس الذي رافقه بالضرب طول الطريق الى المرافق الصحية.

وفي المرافق الصحية وجد في احد المكعبات كومة من الجثث مهشمة وزرقاء وجثتين أُخريين في المكعب الثاني ، كان اصحابهما نحيفين بلا عيون.

وكانت هناك جثة اخرى قرب المغسلة. فغادر حمادة المرافق الصحية مرعوبًا ولكن الحارس أعاده وقال له ان يتبول على الجثث لكنه لم يستطع.

وبحسب تحقيقات الأمم المتحدة، فإن المعتقلين الموتى "يُحفظون في المرافق الصحية" في العديد من فروع الأجهزة الأمنية في دمشق.

ورأى حمادة جنودًا سكارى في جيش النظام دخلوا المستشفى حيث ذبح احدهم مريضًا طلب دواء، وأمر مريضًا آخر بأن يسحل جثته الى المرافق الصحية.

وقال الجندي انه عزرائيل ملك الموت. وجاء في تقرير الأمم المتحدة عن المستشفى 601 "ان العديد من المرضى تعرضوا الى التعذيب حتى الموت في هذه المنشأة". &

صور قيصر&

تأكدت شهادة حمادة عن الفظائع التي تُرتكب في المستشفى 601 بنحو 55 الف صورة فوتوغرافية هربها ضابط في الشرطة العسكرية عُرف باسم قيصر.

وكانت مهمة قيصر قبل الحرب توثيق مواقع الجرائم وحوادث المرور التي تقع للعسكريين في دمشق وتحميل الصور على كومبيوترات الحكومة ثم طباعتها وربطها بتقارير الوفيات.

ولكن جثث الضحايا بعد اندلاع الانتفاضة عام 2011 كانت جثث المعتقلين التي تُجمع كل يوم من فروع الأجهزة الأمنية وتُنقل الى المستشفيات العسكرية. &

وفي المستشفى 601 صور فريق قيصر جثث الضحايا في المشرحة وفي مرأب السيارات.

وكانت كل جثة جرى تصويرها تحمل رقمًا خاصًا مثل رقم حمادة ـ 1858 ـ &كُتب على ورقة أو شريط أو صدر الضحية أو جبهته بلون غامق. وكان فريق قيصر يصور اكثر من 50 جثة يوميًا.&

غادر قيصر سوريا في آب/اغسطس 2013 ومعه فلاش ذاكرة مخبأ في جواربه. وبقيت الصور طي الكتمان الى ان تحدث قيصر مع فريق دولي من المحققين وخبراء جمع الأدلة في مطلع عام 2014.

وجرى حتى الآن التعرف على هويات نحو 730 ضحية. وتعرف حمادة على العديد ممن كانوا معه في زنزانة واحدة.
&&
نهاية اللعبة

قال سفير الولايات المتحدة المتجول السابق لقضايا جرائم الحرب ستيفن راب لمجلة نيويوركر، إنه عندما يأتي يوم الحساب ستكون الأدلة المتوفرة أفضل بكثير مما توفر في حالات مشابهة منذ محاكمات نورنبرغ.

واعرب الخبيران القانونيان بيل وايلي وكريس انغيلز عن اعتقادهما بأنه إذا أُحليت هذه الملفات الى القضاء الدولي ستكون لدى لجنة العدالة والمساءلة الدولية أدلة كافية لإدانة بشار الأسد واركان نظامه بارتكاب عدة جرائم ضد الانسانية، بينها القتل والتعذيب واعمال لاانسانية أخرى.

في هذه الأثناء، يحضر حمادة في هولندا جلسات للعلاج الطبيعي من اجل اعادة تأهيل أطرافه التي هشمها النظام.

وهو يتعلم الهولندية وينظم احتجاجات ضد الأسد في الساحات العامة، ويتساءل عن مصير ابناء عمه وشقيقه وزوج اخته والعديد من اصدقائه المفقودين.

وقال باكيًا "أين هم؟ هل هم احياء؟ هل هم اموات؟ وشقيقته في سوريا تطلب من سلطات النظام شهادة وفاة زوجها ولكن بلا جدوى.

ورغم وجود حمادة في بلد آمن، فإنه وصف حياته بأنها "تعاسة" كل يوم "تعاسة في تعاسة، انها موت، انها حياة موت"، حتى يُحال المسؤولون عن تعاسته وموت اهله واصدقائه الى العدالة.&
&