خلال سنوات طويلة مضت، اذكر أن أحد أشهر العناوين والمحاورة النقاشية المطروحة على موائد الباحثين المتخصصين في الشأن الخليجي كان يتمحور حول اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية، وتحديداً "إيران بين الثورة والدولة"، حيث أفاض الكثيرون وخصصت مؤتمرات وندوات كثيرة لمناقشة التحول الايراني المزعوم من الثورة إلى الدولة، ولكني لم ألحظ يوما ما أن الملالي يتصرفون من منطق الدولة، ولا حتى منطق الثورة، فللثورات ملامح ومعالم يمكن التوصل إليها من مراجعة التاريخ.

ولكن السلوك الايراني لا يندرج ضمن السلوكيات المتعارف عليها للدول، كما لا يمت بصلة للسلوك الثوري، لاسيما بعد أن نال التعب والارهاق والتقادم الزمني الطبيعي من الملالي وحال بينهم وبين مواصلة الزخم الانفعالي، الذي ميز السنوات الأولى من ثورة الخميني عام 1979. وبالتالي، فإن إيران لا تزال بعيدة عن السلوك الطبيعي للدول، وتتصرف بفكر عشوائي يميل إلى "البلطجة" ولا يقترب مطلقاً من السياسة وقواعدها المتعارف عليها بين الدول.

هناك أزمة معقدة في العلاقات الخليجية ـ الايرانية، والجميع يعرف هذه الحقيقة، ولكن اللافت في الأمر أن دول مجلس التعاون لا تضع شروطا تعجيزية لتنقية الأجواء مع إيران، بل تطالب بالتزام الجار الجغرافي بمبادىء وميثاق الأمم المتحدة، مثل احترام حق السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول المجاورة، والكف عن اثارة الفتن والمؤامرات عبر استغلال ورقة المذهبية والسعي من خلالها إلى زعزعة استقرار بعض دول مجلس التعاون، ولكن الأفعال دائما ما تفضح نوايا النظام الايراني، فبالأمس القريب تدخلت إيران بشكل فج في شؤون ممكة البحرين ونقلت عمن وصفتهم وسائل الاعلام الايرانية

بعلماء البحرين دعوتهم "للنفير الدفاعي العام" والنزول للشارع!!

لم تكن هذه الواقعة هي حادثة التحريض الايرانية الأولى من نوعها في مملكة البحرين، واتصور أنها لن تكون الأخيرة لأن نظام الملالي لا يتخلى عن مخططاته ومؤامراته بسهولة، أو عبر مناشدات سياسية، فهو نظام اعتاد "تجرع كأس السم" في كل جريمة يرتكبها على الصعيد الاقليمي، وبالتالي فلن يردعه سوى الاحساس بالكلفة الباهظة لمثل هذه الجرائم.

متى تقتنع إيران ببناء علاقات طبيعية مع مملكة البحرين وغيرها من دول مجلس التعاون؟ قد يقول البعض أن هناك علاقات طبيعية قائمة بين طهران و"بعض" دول مجلس التعاون، وأن الخلافات الظاهرة والمعلنة تنحصر في العلاقات بين إيران والبعض الآخر من دون مجلس التعاون، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكنه لا يعني أن هناك حسن نوايا إيراني في اتجاه، وسوء في الاتجاه الآخر، فإيران تتحرك على وقع الفتن والمؤامرات، وحينما تحاول تحسين علاقاته مع بعض دول مجلس التعاون فهي لا تسعى سوى إلى زرع الفتن والشقاق والوقيعة بين دول المجلس حول كيفية معالجة الإشكاليات القائمة مع الملالي، أي تحاول استقطاب واستمالة بعض دول المجلس على حساب البعض الآخر، رغم أن الجميع يدرك حجم الحقد الايراني تجاه مجلس التعاون كمنظومة اقليمية ناجحة، وأن أحد أهداف إيران الاستراتيجية تتمثل في تقويض أسس هذا المجلس وتفكيكه والسعي لتشكيل منظومة بديلة تضم إيران !!

الأنظمة الثيوقراطية التي تتسم بالديكتاتورية والتشدد والانفعال وتفتقر إلى التوازن والانضباط والرشادة السياسية، هي أنظمة انتحارية بطبعها، ومن ثم فإن التعامل معها يحتاج إلى قراءة جيدة وواقعية لنواياها الحقيقية لا المعلنة! ومن ثم فإن أكثر ما يزعج النظام الايراني هو احساسه بالخطر والخوف من الانهيار، أي انهيار النظام، لذا فإنه يتراجع دائما في مواجهة أي

ضغط أو تهديد خارجي يعتقد أنه يهدد قواعد النظام او يزلزل الأرض من تحت أقدامه. ولا يهم مثل هذه الأنظمة توقيع عقوبات أو فرض حصار دولي أو غير ذلك، بل هي تقتات وتعيش على وقع مثل هذه الآليات وتجد فيها ذريعة للفشل في تحقيق أي إنجاز تنموي داخلي لشعوبها.