سخر الاعلام العربي ومتابعيه مراراً من تبشير الرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد بشكلٍ متكرر بقرب ظهور المهدي المنتظر [صاحب الزمان الذي سيملأ الأرض عدلاً. وانتقل هذا الانتباه بمزيج من الاستغراب والتساؤل وقليل من السخرية إلى الإعلام العالمي؛ عندما فعل ذلك من منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ونحن على أبواب الإنتخابات الرئاسية في إيران؛ قد يجهل الكثيرون من متابعي الشؤون السياسية الإيرانية، أن هذا التبشير هو أحد مهام الرئيس الإيراني التي نص عليها الدستور الصادر بعد الثورة الإيرانية، والتي أسفرت عن استيلاء الخميني وأتباعه من رجال الدين المعممين على السلطة في إيران. فقد نص دستور إيران مابعد الثورة على أن النظام السياسي الإيراني يقوم على مبادئ المذهب الجعفري الإثنا عشري [الشيعي]، والإيمان بالإمامة وفقاً لوجهة نظر الخميني في «ولاية الفقيه»، كما أن من شروط الترشح لرئاسة الجمهورية الإيمان بالمذهب الرسمي للبلاد. إضافة لذلك يقسم الرئيس المنتخب على حماية المذهب الرسمي للبلاد ترتيباً قبل حماية نظام الدولة والدستور (المواد 2،12 115، 121).
وإذ لاتكفي هذه المادة لاستعراض بناء النظام السياسي الإيراني وفقاً لدستور 1979 وتعديلات عام 1989 الذي صدر وعدل تحت إشرافمباشر من الخميني؛ على الرغم من أن التعديلات جرى الاستفتاء عليها بعد وفاته بشهر ونصف تقريباً. فإني سأستعرض بشكل موجز صلاحيات الرئيس في الدستور القائم؛ الذي هدفت تعديلاته لتعزيز صلاحياته بإلغاء منصب رئيس مجلس الوزراء، وذلك بعد إعطاء لمحة موجزة عن المؤسسات الدستورية الأكثر فاعلية!
شكل النظام السياسي الإيراني أو متاهة الخميني المُحكمة
أنتج الدستور الإيراني الذي مثل وجهة نظر الخميني في الحكم نظاماً سياسياً هجيناً يصعب توصيفه وفقاً للمصطلحات السياسية المستقرةفي توصيف الأنظمة السياسية القائمة والمندثرة، ويصعب مقارنته بأي نظام سياسي آخر. إنه نظام «مابعد ثيوقراطي» في أقرب وصف معقول. فهو كالأنظمة الشمولية اعتمد الإيديولوجيا [العقيدة الشيعية] لإحكام سيطرته على كافة نواحي الحياة في المجتمع الإيراني، إلى ذلك فهو يحوز على الشرعية الثورية التي جاءت بالخميني للحكم، والذي استخدم «الكاريزما» الشخصية ودوره في الثورة لا ليحصل على سلطات دينية وسياسية مطلقة، بل ليرفع نفسه ليس فقط لمصاف الأئمة، بل إلى مقام المقدس واستُخدم تعبير [قدس سره الشريف] بجانب اسمهأينما ورد. إنه أحد أشكال الأنظمة الشمولية الأكثر تطرفاً. كذلك النظام السياسي الإيراني كالأنظمة السلطوية أبقى على شيئٍ من التعددية، وبالرغم من هضم هذه التعددية تدريجياً وحصرها بعدم مخالفتهاالإيديولوجيا الحاكمة، إلا أن الفضاء السياسي الإيراني ومن داخل مفهوم «الجمهورية الإسلامية» مازال يحافظ على شئٍ من التعددية. وهو أيضاً كالأنظمة الديموقراطية فيه انتخابات مجالس محلية وبرلمانية ورئاسية يعبر فيها الناس عن خياراتهم وفقاً لما يتبقى من الأسماء بعد غربلتها وفقاً لإرادة المرشد الأعلى الولي الفقيه.
- المرشد الأعلى للجمهورية
البناء "الهرمي" للنظام السياسي في الدستور الإيراني جعل السلطة العليا للولي الفقيه ونص على تسميته بالقائد (القيادة أحياناً) [المرشدالأعلى: وفقاً للترجمة العربية] ويحكم مدى الحياة إلا في حالات الاستقالة والعجز وفقدان الأهلية (الدستور: الديباجة، المادة ،5، 57، 60، 107، 110،...)
- مجلس صيانة الدستور
يأتي بعد المرشد الأعلى في تسلسل القوة الدستورية «مجلس صيانة الدستور» المكون من 12 عضواً (المادة 91) الذي يعين نصفه المرشد بشكل مباشر من "الفقهاء العدول" وينتخب مجلس الشورى النصف الآخر من "الفقهاء المسلمين" ذوي الاختصاص القانوني من مرشحين يختارهم رئيس السلطة القضائية المعين من المرشد الأعلى ومدة ولاية المجلس ست سنوات! هذا يفضي عملياً إلى أن المجلس معين كليّاً من المرشد الأعلى.
أعطي هذا المجلس المعين في مواد متفرقة من الدستور السلطة الكاملة للتحكم بكل ما هو مُنتخب؛ من المرشحين لمجالس القرى والبلدات حتى رئيس الجمهورية مروراً بمجلس الشورى ومجلس خبراء القيادة وكذلك على الاستفتاءءات العامة. يمكن لهذا المجلس أن يستبعد أي من المرشحين لأي منصب أو موقع وفقاً لمواد مطاطة في الدستور الإيرانيويمكن تأوليها من فقهاء المجلس. بل إن الدستور أعطى الأفضيلة في بعض الأماكن "للفقهاء العدول" الذين يعينهم مباشرة المرشد على "الفقهاء المسلمين" الذين يعينهم المرشد بشكل غير مباشر! بل أكثر من ذلك فقد نص الدستور على أن لا مشروعية لمجلس الشورى في حال غياب مجلس صيانة الدستور (المادة 93)
- مجلس خبراء القيادة
في محاولة تبسيط المتاهة الدستورية التي وضعها الخميني ليحكم إيران من قبره، فإن المرشد الأعلى [بعد الخميني] ينتخبه مجلس خبراء القيادة المنصوص عليه في المواد (107، 108،...) والذي يتكون حالياً من 86 عضواً ينتخبون مباشرة من الشعب، لكن قانون المجلس والشروط اللازم توفرها في المرشحين له وحتى نظامه الداخلي أعطيت صلاحياتها لمجلس صيانة الدستور المعين من المرشد (المادة 108)!
- مجلس الشورى ومجلس تشخيص مصلحة النظام
إضافة لمجلس الشورى المنتخب بالاقتراع المباشر والمكون من 290 عضواً ومدة ولايته أربع سنوات، والذي يراقب عمله ويشرف عليه وعلى كل القوانين الصادرة عنه مجلس صيانة الدستور المعين من المرشد، هناك «مجلس تشخيص مصلحة النظام» الذي نصت عليه المادة 112 من الدستور، ويتكون حالياً من 31 عضواً يعينهم المرشد [ضمنهم رؤساء السلطات الثلاث] ويستدعى للاجتماع وفقاً لطلب المرشد في أي وقت ليدرس أي قضية تحال له من المرشد، ويتولى أي مسؤولية يكلفه بها! وكذلك يجتمع بأمر من المرشد في حال وجد "مجلس صيانة الدستور أن مشروع قرار مقترح من مجلس الشورى الإسلامي يخالف مبادئ الشريعة والدستور ولم يستطع مجلس الشورى الإسلامي تلبية توقعات مجلس صيانة الدستور" (المادة 112) أي عملياً في حال إصرار مجلس الشورى المنتخب على وجهة نظره مقابل المجلس المعين من المرشد. إنها متاهة مُحكمة لاتجعل النظام السياسي قابلاً للرسم شكليّاً لذلك وضعت كلمة "هرمي" بين قابستين.
صلاحيات الرئيس المنتخب من الشعب
قبل الخوض في صلاحيات الرئيس، سأعيد التذكير بأن مجلس صيانة الدستور المعين من المرشد أعطي صلاحيات دستورية مطلقة لاسلطة فوقها سوى سلطة المرشد في رفض المرشحين لأي موقع في كل المواقع المنتخبة من الشعب وفقاً لجمل غامضة في الدستور، بما فيها المرشحين لرئاسة الجمهورية الذي تتضمن شروط ترشحه "حسن التدبير" و "القدرات الإدارية" إضافة للإيمان بالمبادئ الأساسية لجمهورية إيران الإسلامية والمذهب الرسمي للبلاد. (المادة 115)
- صلاحيات المرشد الأعلى
قبل أن أستعرض الصلاحيات التي يعطيها الدستور للرئيس "المنتخب"سأستعرض الصلاحيات التي أعطاها الدستور للولي الفقيه.
وفقاً لديباجة الدستور يتمتع الولي الفقيه بولاية الأمر والإمامة [وفق نظرية الخميني المنصوص عليها دستورياً]، ونصت المادة الخامسة على أنه في زمن غياب الإمام المهدي "تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل" البصير بأمور العصر، الشجاع...!
ولم يترك الدستور هذه الصلاحيات محل تأويلات وفقاً للتفسيرات الفقهية لنظرية ولاية الفقيه والحكومة الإسلامية التي وضعها الخميني، بل حددها بدقة، في مواد عديدة. أهمها المادة 110 التي نصت على أن المرشد يرسم السياسة العامة للنظام بعد التشاور مع مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يعينه أصلاً! ويشرف على تنفيذها، ويصدر الأمر بالاستفتاء العام، ويقود القوات المسلحة ويعلن الحرب والنفير والسلام،وينصب ويعزل ويقبل استقالة فقهاء مجلس صيانة الدستور المتحكم بكل أمور التشريع والإنتخابات، ورئيس السلطة القضائية، ورئيس الاذاعة والتلفزيون، ورئيس الأركان وقائد الحرس الثوري والقيادات العليا في القوات المسلحة، ويحل الخلافات بين أجنحة القوات المسلحة، ويحل مشاكل النظام التي يعجز عن حلها مجلس تشخيص المصلحة المعين من قبله.
كما يحدد المرشد صلاحية المرشحين للرئاسة من عدمها قبل تصويت مجلس صيانة الدستور [الذي اختار أعضاءه] على أهليتهم للترشح!ويوقع بعد ذلك مرسوم تعيين رئيس الجمهورية بعد انتخابه؛ ويعزله أيضاً. ورغم أن صلاحية عزل الرئيس أعطيت نظرياً لمجلس الشورى بعد تصويت ثلثي النواب على عدم كفاءته (المادة 89) إلا أن المادة تحدد دور النواب برفع الأمر إلى مقام المرشد، وكذلك الأمر مع دور المحكمة الدستورية في حال حكمها بمخالفة الرئيس لوظائفه الدستورية. وأعطت المادة 110 في الفقرة العاشرة صلاحيات مطاطة لاستجابة المرشد لقرار مجلس الشورى أو المحكمة الدستورية بعزل الرئيس بإضافة عبارة "مع أخذ مصالح البلاد بعين الإعتبار"!
كما أن المرشد وفقاً للمادة السابقة يصدر العفو ويخفف العقوبات و"يوكل شخصاً آخر بأداء بعض وظائفه وصلاحياته".
كما أنه في حالة عجز المرشد إثر مرض أو حادثة عن القيام بواجباته مؤقتاً؛ أو في حال وفاته أو استقالته أو "عزله" [أعطيت صلاحية العزلنظريا لمجلس الخبراء] يتولى صلاحيات محدودة من وظائف المرشد،مجلس شورى مكون من رئيس الجمهورية ورئيس السلطة القضائية المعين من المرشد وأحد فقهاء مجلس صيانة الدستور المعين ينتخبه ثلاثة أرباع مجلس تشخيص مصلحة النظام المعين بدوره من المرشد؛ لحين عودته لأداء مهامه أو انتخاب مرشد جديد من مجلس خبراء القيادة الذي يشرف على انتخاباته مجلس صيانة الدستور...(المادة 111). ذلك نموذج مثالي للمتاهة المحكمة.
- صلاحيات الرئيس
بعد كل هذه الصلاحيات المعطاة للمرشد دستورياً، وصلاحيات أخرى مبثوثة في مواد الدستور ومقدمته، ينص الدستور الإيراني على أن رئيس الجمهورية "أعلى سلطة رسمية في البلاد بعد مقام القيادة"! (المادة 113) لكنه يضيف في نفس المادة "إلا في المجالات التي ترتبط بالقيادة" أي المرشد. ويتولى الرئيس والوزراء ممارسة السلطة التنفيذية "باستثناء الصلاحيات المخصصة للإمام القائد" (المادة 60). وأكدت المادة 122 أن الرئيس مسؤول أمام الشعب والقائد ومجلس الشورى. ويقسم الرئيس المنتخب (المادة 121) على "أن استخدم مواهبي وإمكانياتي كافة" في أداء المسؤوليات التي في عهدته، أي التي تركها له المرشد؛ والتي تتضمن اختيار الوزراء ليصوت عليهم مجلس الشورى وتعيين نواب له لحمل هذه المسؤوليات وحماية المذهب الرسمي للبلاد. وحتى هذه الوظيفة ينازعه عليها المرشد وفقاً لنظرية ولاية الفقيه.
الخلاصة
إن الدستور الإيراني مليئ بالتناقضات الفادحة، والتي يصعب استعراضها في هذا المقال، وأسس نظاماً سياسياً مابعد بعد ثيوقراطيلاشبيه له عبر التاريخ، وأعطى سلطات مطلقة للمرشد وأتباعه من الفقهاء المعممين. بل إن المرشد لم يكتف بكل هذه الصلاحيات الدستورية، فلهأكثر من 2000 ممثل "سامي" علني وسري، ينتشرون في الوزارت ودوائر الدولة والمجالس المحلية والسفارات والمراكز الثقافية الإيرانية في الداخل والخارج، وعلاقتهم مباشرة به أو بمكتبه. هم عيونه الساهرة التي ترصد وتكتب، ويده التي يبطش بها أحياناً. إنه نظام أخطبوطي لا شبيه له إلا نظام جورج أورويل المتخيل في رواية 1984 الذي يحتل فيها المرشد دور الأخ الأكبر.
وعليه يمكن فهم التغير المحدود في السياسات الداخلية والخارجية لإيران تبعاً لتغير الرئيس، وذلك للدور المحدود المتروك لرئيس الجمهورية، وقدرة المرشد ورجاله وحرسه الثوري على الإطاحة بإي رئيس أو وزير أو نائب أو مجلس، وإيقاف أي خطوات جدية لإصلاح النظام السياسي أو علاقات إيران الداخلية والخارجية، ويمكن تفسير الفشل الذي مني به الرئيس الأسبق محمد خاتمي ورغبته الإصلاحية، وكذلك فشل الثورة الخضراءالتي كان أساسها منع إمكانية وصول رئيس ينظر للمرشد بوصفه بشراً لا مقدساً.
التعليقات