بعد الضربات التحويلية التي تلقتها جماعة الإخوان المسلمين في مصر؛ بداية بإخفاق مرسي في إدارة الحكم، ومرورا بمظاهرات 30 يونيو، ثم عزل الرئيس مرسي، وصولا إلى أحداث فض اعتصامى : رابعة العدوية، والنهضة يوم 14 أغسطس /آب الماضي بتلك الطريقة المؤسفة؛ ينهض سؤال عريض حول مستقبل الجماعة في مصر؟
بداية لابد من القول أن استخدام العنف في فض الاعتصامين من قبل الشرطة والسلطة المصرية لم يكن موفقا، وأحدث تسخينا جديدا للعنف خلق اسبابا أخرى لردود الأفعال التي تولدت ولا تزال تتولد عنه. فقد كان الأحرى أن يتم استخدام وسائل أخرى في فض الاعتصام وبأساليب غير عنيفة.
أما فيما يتصل بمستقبل الجماعة في مصر؛ فلابد من القول أن الجماعة ظلت باستمرار رقما صعبا في معادلة السياسة المصرية، ولابد من القول أيضا أن تأثيرها في الساحة السياسية المصرية سيظل منعكسا على الواقع ــ سلبا أم ايجابا ــ بحيث لا يمكن استئصاله من قبل أي قوة تحاول ذلك.
بيد أن الاستحقاق الإشكالي الذي سيواجه الاخوان المسلمين اليوم يكمن في : ما هو الدور الذي يتعين عليهم في المستقبل لاستيعاب تلك الاهتزازات والضربات التحويلية التي أصابتهم؟
ولأن جزءً كبيرا من قراءة المستقبل السياسي للجماعة يرتبط بالرؤى الفكرية والإستراتيجية القادرة على تقديم خطط وبرامج فاعلة في الواقع المصري، مرهون وجود طبقة من المفكرين الاستراتيجيين ــ وهذا ما تفتقر إليه الجماعة للأسف إذ أن آخر مفكر للجماعة هو سيد قطب الذي لا يزال كبار صقور الجماعة من أعضاء مكتب الإرشاد ينتمون إلى مدرسته في العمل الاسلامي ــ فإن هناك الكثير من الأسئلة التي ستظل بلا إجابات حول مستقبل الجماعة في مصر.
وإذا كانت الجماعة قد برعت في الجانب التنظيمي؛ من حشد واستقطاب الجماهير والدفع بها إلى ساحات العمل العام والتطوعي والدعوي، فإن هذا الأسلوب ــ بعد وصولهم للحكم وتجريبهم لأكثر من سنة ــ لا يمكن أن يعينهم على إدارة التنوع والتعقيد الذي يتطلبه حكم مصر في واقع محلي وإقليمي معقد.
غير أن هناك جملة من التصورات التاريخية للجماعة لعبت دورا كبيرا في تشكيل رؤيتها النظرية، وظلت محورا لحراكها. وهي تصورات نبعت أصلا من آيدلوجيا الإسلام السياسي على أساس نظريتي quot; الحاكمية quot; و quot; الجاهلية quot; اللتان بلورهما سيد قطب؛ حيث افترضت الأولى تأويلها للسلطة الإلهية في مواجهة آيدلوجية للسلطات الاستعمارية والسلطات العلمانية التي ورثتها من ناحية، وإحلال تلك الحاكمية كغاية لمنهج حركي توهم سيد قطب من خلاله شكلا وحيدا لاستئناف حياة اسلامية حقيقية، بخلاف حياة المسلمين المعاصرة المتصلة بالنظرية الثانية (نظرية الجاهلية)، من ناحية ثانية.
وهكذا في غياب رؤى فكرية جديدة ينتجها مفكرون جدد لمواجهة واقع ما بعد الحرب الباردة، وأسئلة الربيع العربي حيث توقفت الرؤية الفكرية والإستراتيجية للإخوان على اجتهادات سيد قطب المتصلة في الكثير من حيثياتها بالحالة الاستعمارية، وبتأويلات المفكر الباكستاني أبي الأعلى المودودي الذي ارتبطت افكاره حول الدولة والحاكمية عبر الحالة الاستعمارية المركبة للهند ومسلميها؛ سيكون من العسير تغيير واقع الجماعة وإمكانية قدرتها على اختراق ذلك الواقع بتحولات فكرية جديدة
لقد كانت أهم خصائص هذا الفكر المؤدلج، وغير المعرفي :أن يعيد انتاج الانشقاق في جسم الجماعة كردود فعل على التأويلات النابعة من الآيدلوجيا، لاسيما في أزمنة القمع : انشقاق الاخوان في السجون وخروج حركة التكفير والهجرة، ثم خروج حزب الوسط بعد الانفتاح في عهد مبارك، والانشقاق الأخير بعد مظاهرات 30 يونيو الماضي؛ كما أن من أهم مفاعيل هذا الفكر الآيدلوجي : تجذير مفهوم العزلة وكراهية الاندماج في المجتمع، وتأثيث الانتماء كحالة جوهرانية للجماعة، وتجميد النمط الخاص لفهم الإسلام كإطار عمومي لأفراد الجماعة يماهي تأويلهم الذاتي بالإسلام، بحيث يصبح فهم عموم المسلمين فهما استثنائيا بالنسبة لهم.
ولقد ظهرت كل تلك النماذج التأويلية المأزومة في تجربيهم السياسي خلال السنة الماضية من رئاسة الرئيس المعزول محمد مرسي، فوقع التناقض الأصلي بين تصورهم الإخواني الآيدلوجي للإسلام ومحاولة تعميمه على جميع المصريين من خلال سلطة الحكم، وبين الحالة التاريخية التي تشكل فيها المجتمع المصري بعمومه لأكثر من مائتي سنة عبر حياة اندمج نمطها العام في العصر الحديث، وبطريقة أصبحت معها رؤية الواقع وضبط معايير التفاعل معه تحتاج من الجماعة إلى تطوير تصورات ومفاهيم وقراءات وبرامج اسلامية معرفية جديدة تنحاز للحقوق والحريات، وقبول الآخر، والكرامة، والشراكة الوطنية، وفهم العالم الحديث من خلال نظم إدراك جديدة وقواعد عقلانية لتداول السلطة وفهم موازين القوى في المسرح السياسي محليا وإقليميا ودوليا، وغير ذلك من التصورات التي ينتجها المفكرون المستنيرون.
وبالرغم من صعوبة الوصول إلى هذه الآفاق المتقدمة في فهم الاسلام بمرجعيات متجددة في ظل الواقع الفكري والآيدلوجي المحدود لاجتهادات الاخوان المسلمين التي توقفت مع مشروع سيد قطب؛ فإن مستقبل الجماعة في مصر سيظل مرهونا بتلك النقلة الجديدة. فحتى لو تمت التسويات في المستقبل بين الجماعة والقوى السياسية الأخرى في مصر، ستعود تلك الاشكالات وتعيد انتاج نفسها لتعيق عملية الانتقال الديمقراطي في مصر.
ذلك أن أي نسق آيدلوجي في التفكير ينطوي بالضرورة على انسداد ما قد يمنح العنف مشروعية متوهمة في تحريك الواقع، سواء أكان ذلك النسق دينيا أم عقائديا. والحال أن ما يمكن توقعه من عنف مضاد كردود فعل على هذه الضربات التحويلية التي أصابت الجماعة قد يندرج ضمن هذا التأويل الذي يأخذ مشروعيته من رؤى ثابتة ومواقف متصلبة في فهم حيازة السلطة بتأويل ماضوي وقناعة مقدسة يتم تنزيلها على الموقف السياسي المتغير بطبيعته. وفي هذا الحال ربما تتشظى الجماعة وتعود لسراديب العمل السري ما يعني دورة جديدة من العنف الذي سيعيق الاستقرار في مصر، ويعطل عملية الانتقال الديمقراطي.
[email protected]