يوما بعد يوم تتكشف الحاجة المعرفية إلى موضعة الإسلام، وفرز تأويله المعرفي عن التأويلات الآيدلوجية، التي كان لبعض صورها المتطرفة آثار مدمرة كانت ولا تزال من أهم الأسباب الرئيسية في توتر علاقات الغرب والعالم الإسلامي خصوصا في هذا الزمن الذي شكلت فيه ثورة الاتصالات والمعلوماتية بؤرة دمج قوية لأطراف العالم ببعضها البعض، وبصورة أصبح تأثيرها المباشر ينطوي على اهتزازات خطيرة لأطراف ذلك العالم كلما ضربته الكوارث نتيجة ذلك التأويل مثل كارثة 11 أيلول 2001 في نيويورك بفعل تنظيم القاعدة الإرهابي. بيد أن هذه الحاجة إلى موضعة الإسلام معرفيا من خلال مصادره المؤسسة (القرآن وصحيح السنة النبوية) رغم حيويتها الملحة لفهم وتسكين أثر الحركات الأصولية المتطرفة والناشطة عالميا، تظل مع ذلك أيضا من أهم الاستحقاقات الفكرية والمعرفية التي تم إهمالها طويلا.

ذلك أن فكرة الوعي النظري بأهمية القرآن كحقل من حقول المعرفة المعاصرة، كانت ضمن اللامفكر فيه في سجال آيدلوجيات القرن العشرين، دون أن ينتبه مفكرو(الحداثة العربية) مثلا إلى أن الإصلاح الديني في أوربا كان من أهم الحلقات التي مهدت لحداثتها، ودون أن ينتبهوا ــ وهذا هو الأهم ــ للطبيعة التي مازت أصول الدين الإسلامي عن المسيحية الأوربية عبر العديد من حيثيات الاختلاف الموضوعية؛ ومن ثم دراسة وتحديث الفكر الإسلامي عبر مشاريع فكرية تبحث في مفاهيم القرآن بمناهج المعرفة، وتختبر جدوى تلك المفاهيم على واقع المسلمين الأمر الذي أدى إلى تجميد المواجهة المعرفية للنص والتراث حتى انفجرت تلك الحركات المتشددة ونشطت عبر قراءات آيدلوجية متطرفة وسلفية للدين في عالم شديد التعقيد والتركيب على هذا النحو من الصراع والتوتر الذي نعيشه.

إن اشتغال المفكرين العرب على دراسة المصادر المؤسسة للإسلام، وعلى رأسها القرآن الكريم، ضمن مشاريع فكرية ومعرفية سيظل من أهم التحديات والاستحقاقات التي طال تأجيلها، وتحتاج إلى شجاعة فكرية بعيدا عن الرهاب الآيدلوجي للحداثة. ذلك أن القيام بمثل هذه المشاريع هو الخطوة الأولى لتحرير الإشكالات المزمنة والمعقدة لعلاقة المفكرين العرب والمسلمين ـ بكافة تياراتهم ـ مع القرآن. فقد ظلت رؤية الكثير من المفكرين العرب للقرآن تضمر موقفا يرى في القرآن الكريم نصا دينيا غير قابل للقراءة المعرفية؛ بفعل توهم قطيعة آيدلوجية حداثوية باعدت بينهم وبين الموقف المعرفي والموضوعي من القرآن طوال القرن العشرين. والمفارقة أن الكثير من هؤلاء المفكرين يجدون اليوم أنفسهم أكثر عجزا عن شجاعة الاعتراف بموقف موضوعي يرى إمكانية قراءة معرفية للخطاب القرآني؛ قادرة على انتاج أفكار حيوية في قضايا المجتمعات العربية المعاصرة فكريا، وثقافيا، وتاريخيا.

ما تحاشاه أغلب المفكرين العرب ــ وكانوا هم الأولى به بطبيعة الحال ــ في طريقهم المعكوس لتمثل الحداثة؛ اضطلع به في البداية مستشرقون في الغرب، لاسيما في ألمانيا، بالإضافة إلى بعض المفكرين من أمثال : مالك بن نبي، محمد أركون، الجابري، نصر أبي زيد، وطه عبد الرحمن؛ وذلك في سبيل مواجهة إشكالات واقع المجتمعات العربية في الأزمنة الحديثة، بوصفها إشكالات متصلة في صميمها بتأويل آيدلوجي متخلف للدين. ومن ثم البحث عن تأويل معرفي للقرآن في الأزمنة الحديثة؛ ينحو إلى تأسيس استراتيجية بنيوية للإصلاح عبر مراكمة الأبحاث حول الكثير من القيم الكونية التي انتظمت ثوابت عقلانية مضطردة في تاريخ الإسلام، فيما كانت عابرة لتاريخيتها في الوقت نفسه، أي تلك القيم القابلة للتجديد وإحياء الفاعلية في حياة المسلمين.

فمن خلال تلك الأبحاث الشجاعة والجادة حيال اجتراح تأويل معرفي للإسلام، سيتكشف ما إذا كانت طبيعة العلاقة المعرفية بالقرآن في الأزمنة الحديثة ستنتهي إلى قطيعة أم إلى صيرورة.
ذلك أن الأمة التي أنتجت أضخم تراث مكتوب في تاريخ البشرية، ومن ثم أعظم حركة ترجمة حضارية، قبل العصور الحديثة، لا يمكن أن تستوي على وضع عادي ـ كسائر الأمم ـ في حالتي الضعف والقوة.
و في غياب استحقاق التأويل المعرفي للقرآن طوال القرن العشرين، ضمن تلك الخفة التي حاولت استيهام قطيعة مع الإسلام عبر التماهي الخادع مع الحداثة الأوربية من موقع متأخر جدا؛ كان لابد أن تحضر التأويلات الآيدلوجية المتطرفة للجماعات الإسلامية من أعماق التاريخ كي تسد الفراغ، كما نراها اليوم. فلو واجه المفكرون العرب تحديات التأويل المعرفي للقرآن والإسلام في واقع المجتمعات الإسلامية، بدلا من التعثر الدائم في قراءات مبتورة للحداثة؛ لكان الوضع اليوم أحسن حالا. ذلك أن معرفتنا بأنفسنا أهم بكثير من معرفة العالم بنا.
[email protected]