ظهر العنف السياسي في الثورات الكلاسيكية كشرط من شروط تحريك الواقع باتجاه التغيير الثوري، وضمن أفعال الاهتزاز الضروري لتداعي النظام القديم. وفي أغلب تلك الثورات كان ضبط المسار معقلنا، لا سيما مسار العنف الطبقي للمجتمعات الأوربية في طريقها للإمساك بمصيرها السياسي عبر المصالح الموضوعية. وعنف كهذا إذ يؤدي إلى تسخين الواقع وتسييله فإنما يعكس رؤية منظمة في نهاية الحراك؛ رغم الفوضى الضرورية التي تسبقه.

ما يجري في مصر الآن من عنف، ليس تفصيلا على هامش الثورة، أو امتدادا عام لمسارها الجمعي؛ بل هو نتيجة انقسام عمودي للمجتمع الثوري ذاته ناشئ من رؤية آيدلوجية إسلاموية لم يعرف أصحابها تجريبا سياسيا من قبل، ولا يملكون رؤية من داخل البنية الوطنية للحراك السياسي.
فهم إذ يصدرون عن الآيدلوجيا الإسلاموية إنما يعكسون وعيا نسقيا ليس له القدرة على اختراق الواقع، أو تمثل دلالته في شراكة وطنية تقتضي تسوية دالة على معنى الحساسية السيادية في مثل هذه المنعطفات التاريخية لمصر.
ورغم الحوار الذي دعا إليه الرئيس المصري محمد مرسي؛ فإن رفض جبهة الانقاذ الوطنية لذلك الحوار قد لا يكون لذاته بقدر ما هو خوف من امتداد جديد لخلافات جديدة تؤدي إلى حوارات أخرى، وهكذا إلى ما لانهاية.
فالشهور السابقة كشفت تماما خطأ تقدير الإخوان للمغامرة السياسية التي أقدموا عليها عبر ترتيبات حاولت حيازة منفردة بالحكم، ومحاولات كشفت عن تصرفاتهم بطريقة دلت تماما على أن تجريبهم الذي كان يتعثر في كل مرة وفي كل خطوة سيصل بالبلاد إلى طريق مسدود ومواز لرؤيتهم النسقية تماما.
فلو تأملنا مثلا اختلافهم على أبي الفتوح (وهو من أهل البيت) بحجة أن الجماعة لن تترشح أحدا للانتخابات الرئاسية، في بداية الثورة، ثم لما بدا لها تغيير الخطة والقرار بالخوض في الانتخابات الرئاسية؛ كان الطبيعي جدا أن يدفع الإخوان باتجاه دعم أبي الفتوح، لكن خيارهم باختيار خيرت الشاطر أولا ثم محمد مرسي ثانيا، كشف عن ضيقهم وبرمهم بالاختلاف مع الرفيق الحميم فكيف سيكون حالهم مع شركاء الوطن من الفرقاء السياسيين؟
وهاهي الأيام أثبتت أن ما يفسر تناقضاتهم وغموض برنامجهم ليس هو دعوتهم للحوار وإعلانهم المستمر عن رغبتهم في الحوار؛ بل هو رؤيتهم النسقية التي تجعل من نسبية السياسة مطلقا ومجردا يظل قابلا للنقاش في ذاته ولذاته دون أي قدرة على اختراق الواقع باتجاه تسوية وطنية. وهذا ما ضاق به الدكتور عصام العريان ذرعا حين صرح لإحدى الفضائيات الإخبارية بأن من لا يريد الحوار مع الرئيس فهو وشأنه. دون أن يتفكر ولو لمرة، فيما يمكن أن تجر إليه مآلات العنف السياسي الذي وصل إلى مستويات أدت إلى تدخل الجيش محذرا من احتمال أن يؤدي العنف إلى انهيار الدولة.
هذه التصريحات الخطيرة للجيش المصري، ليست تحذيرا يستبطن نية في العودة إلى السلطة مرة أخرى؛ بل هي ربما احساس بأن المأزق الإخواني سيجر العنف إلى حدود الحرب الأهلية، التي إن حدثت ــ لاسمح الله ــ فلن تكون إلا نتيجة لذلك الأفق المسدود.والحال أن مصر التي ظل عمقها الحضاري والتاريخي غير قابل لمفاعيل الحروب الأهلية التي توقظها الطوائف والقبائل، وإن حدث ذلك ــ لا قدر الله ــ فهو تحديدا سيكون نتيجة لآثار التجريب السياسي للإخوان في هذه الأزمة.
ان هذا المأزق الذي وصل إليه الإخوان المسلمون، هو أشبه بحالات جنينية لتجربة الاسلام السياسي في كل من السودان وفلسطين وما نجم عن تلك التجربتين من تقسيم معلن في السودان، ومضمر في فلسطين. وإذا كانت الانتخابات المبكرة قد تكون مطلبا للخروج من مثل هذا المأزق في الدول الديمقراطية الراسخة؛ إلا أن هذا الخيار قد يعيد الإخوان مرة أخرى إلى السلطة، على غرار ما جرى في الاستفتاء الدستوري الذي حسم لصالحهم؛ ما يعني أن الإشكالية هنا تتصل بجوانب النقص البنيوي في عملية البناء الديمقراطي التي تسير على عتباتها الأولى في مصر، وتختبر مجازا هشا لصمودها الذي لا يمكن قياسه بصندوق الاقتراع، بمعزل عن المقتضيات المحايثة للمجتمع الديمقراطي؛ كالفردية، والتأهيل المعرفي والتربية السياسية، وحقوق الانسان، وقدرة الشعب على رؤية المصير السياسي من خلال تمثل طبقاته لمصالحها وبلورتها في منظومة حقوقية عامة. كل ذلك مما لا يسمح به الواقع الموضوعي للعملية الديمقراطية في مصر الآن وبالتالي سيظل الأمر أشبه بالمأزق طوال السنوات الرئاسية الأربع للإخوان المسلمين.
فما يجبر غياب تلك المقتضيات الديمقراطية الضامنة لاستقرار مصر وازدهارها اليوم هو : التسوية الوطنية ذات الطابع السيادي، بعيدا عن الآيدلوجيا وفي ظل غياب مشروع كهذا على المدى القريب بين القوى السياسية بمصر سيظل التجريب السياسي للإخوان المسلمين مصدرا للعنف والانقسام الذي لا نتمناه لمصر.