محاولة فهم الإسلام في هذا الواقع المعقد للأزمنة الحديثة تتصل بأبعاد مختلفة، وتندمج فيها قراءات متعددة لسبر رؤية معرفية مركبة ومتجاوزة لما هو مطروح اليوم من أنماط تفكير تقليدية في وعي الاسلام والحداثة معا.
بداية لابد من عدم توهم التناقض بين المعنى التاريخي للدين، و القداسة فيه؛ لأن الانسان يستجيب بفطرته للمعنيـَيـن. فالتاريخية لا تلزم بالضرورة نفي المعنى الديني في السلوك الإنساني المرتبط به. ذلك أن اختلاف الصحابة مثلا في القضايا السياسية لا يعني بالضرورة أن اختلافهم فيها هو مقتضى لمصالح ومطامح شخصية، بقدر ما هو خلاف في قضايا بطبيعتها محل اختلاف الرأي من ناحية، ونتيجة لتاريخية فهم النص من ناحية ثانية. فالجذر التأويلي الذي يفترض تناقضا بين المعنى التاريخي للسلوك الإنساني، وبين المعنى المقدس للدين هو في الأصل من مفاعيل الصراع التاريخي للحداثة الأوربية مع الكنيسة المسيحية. فالتطرف الكنسي الذي حول حتى الجانب التاريخي من الدين إلى جانب مقدس مطلق، كان لابد أن ينتج ردود فعل نقيضة له في مفاهيم الحداثة الأوربية.
استصحاب هذا المعنى ربما يوصلنا أيضا إلى إمكانية فهم موضوعي غائب لطبيعة النص القرآني في إطار صيرورة العلاقة معه لا القطيعة. فالقرآن وإن كان مصدره متعاليا لا تاريخيا، إلا أن صياغته اللغوية بنيت أصلا على قابليتها للفهم والتعقل التاريخيين.
وحين نفصل بين (الاسلام الأول أو الإسلام التأسيسي) وهذا يعني النص الأول ـ بحسب محمد أركون ـ وما ارتبط به من فهم صاحبه في التطبيقات الأولى المتصلة بمصدر النص، أي تطبيقات الرسول والصحابة من ناحية، وبين الفهوم المتعاقبة والمتناسخة على مدى التاريخ الإسلامي من ناحية أخرى؛ ربما نجد تأويلا متماسكا لموضعة الإسلام كدين ضمن فهم معياري أنتج واقعا موضوعيا تاريخيا (عصر النبوة والخلفاء الراشدين) ومختلفا عن نمط التدين الذي تنتجه الحركات الإسلاموية المعاصرة نتيجة لفهمها الآيدلوجي.
الانطلاق من هذا الفرز بين ضرورة وعي المعنى التاريخي للدين، دون إهدار الجانب الطهراني منه حين يلابس الواقع الانساني الموضوعي، وما ينتج عن تلك الملابسة من فهوم معرفية أنتجت واقعا موضوعيا ـــ كفترة النبوة والخلفاء الراشدين ـــ وبين فهوم أخرى تعبر عن تأويلات منحرفة عن المعرفة، ومنحازة للآيدلوجيا كالكثير من الحالات في التاريخ الإسلامي؛ وهي حالات ترتبط بالتخلف ارتباطا عضويا كالحالة التي يعيشها المسلمون اليوم.
هذا الفرز سيلعب دورا كبيرا في التوصل إلى نتائج إيجابية مثمرة في البحث المعرفي عن الكثير من المفاهيم المرتبطة بالدين.
أما نقد الوحي واختبار معناه وحقيقة اتصاله بالوجود الإلهي، وعلاقة ذلك بمفهوم النبوة، وما إذا كان تاريخيا أي بشريا، أو متعاليا فهذه كلها موضوعات تتصل ببحوث منفصلة ويحتاج الخوض فيها إلى موضوعات مستقلة عن موضوعة المقال الأصلي. وهي بالطبع موضوعات ترتبط دلالتها ضمن علاقة قوية بحركة الاسلام وتاريخية المد الاسلامي (الفتح الإسلامي). فتاريخية المد الإسلامي أي بشريته التي غطت نصف العالم القديم في أقل من 100 سنة وغيرت مصائر المجتمعات فيه مرة وإلى الأبد؛ هي التي جعلت المؤرخ البلجيكي هنري بيرن يقرر هذه الحقيقة التاريخية بقوله (لقد دمر الإسلام الوحدة التاريخية للبحر المتوسط مرة وإلى الأبد). وهي التي جعلت المفكر العربي الكبير والفيلسوف المرموق عبد الله العروي يقول عن الفتوحات الإسلامية بأ نها: (معجزة بشرية).
ثمة الكثير مما هو مسكوت عنه أو غير معروف، ويحتاج إلى قراءات معرفية جادة ورصينة في تفسير الفاعلية التاريخية للإسلام، وارتباط تلك الفاعلية بمصادره. كالقطيعة الهائلة التي أحدثها النص القرآني / الإسلام في حياة العرب الجاهليين في جيل واحد، وهي قطيعة لم تغير مجتمعهم فقط بصورة جذرية؛ بل غيرت وجه التاريخ في العالم القديم وأنتجت حركة علمية وحضارية، وتراثا هو الأكبر في تاريخ المدونة البشرية. والتأمل في حيثيات هذه القطيعة وفاعلية النص الذي أنتجها أمر يحتاج منا إلى إطِّراح الكثير من المسلمات التقليدية التي عادة ما نفهمها كمسلمين ـ سواء أكانت إيجابية أم سلبية ـ كما أنه يحتاج في نفس الوقت إلى قراءات رصينة وعميقة، بعيدا عن مصادر السجال الآيدلوجي الدائر في حياة المسلمين المعاصرة. فحين قال العروي عن تاريخية المد الإسلامي بأنه (معجزة بشرية) كان يتحدث عن حقيقة علمية تاريخية بيقين رياضي. فكل باحث موضوعي يتأمل حركة المد التاريخي الإسلامي وطبيعة نشأتها وفق المعرفة بالقوانين التي تحكم تاريخ الأفكار، وحركة الواقع الموضوعي للمجتمعات التاريخية، لابد أن يصل إلى هكذا نتائج. أما الواقع الذي نعيشه اليوم وما ينتجه من فهوم متخلفة للدين وللحداثة معا، فهو واقع متصل بالتخلف والاستبداد والتقاليد، و يحتاج إلى تفكيك ورصد ورؤية تنفذ إلى ما وراءه من حيثيات معقدة تشتغل على انتاج ذلك التخلف.
ألم يكن غريبا أن تكون نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، أبعد ما تكون عن الإرهاصات القوية بصيرورة الحداثة وتمكنها في المنطقة العربية والإسلامية؛ في كتابات رواد الفكر والمعرفة في بدايات القرن العشرين؟
ثمة خلل أكيد إذن في فهمنا للحداثة، وثمة خلل أكيد في فهمنا للإسلام؛ هذا الخلل حقيقة موضوعية تحتاج من الجميع إلى التأمل فيها.
[email protected]