التخلف ظاهرة إنسانية تنطوي على ذهنية مرضية، تتكشف تجلياتها باستمرار في كل منعطف أو حدث يستدعيها. وهكذا كلما وقعت واقعة في أي سياق متصل بالنسيج العصبي لذلك التخلف تتفجر تلك الذهنية، وتظهر تداعيات كثيرة تؤشر على ألف دليل ودليل على ذلك التخلف.
فإذا كان التخلف في أحد معانيه : العجز عن إدراك حقائق الأشياء بصورة واعية ليس نتيجة للجهل فحسب، وإنما نتيجة لذهنية مشوشة ومضطربة بعادات وتقاليد لاعقلانية تشتغل في وعي وأعصاب الأفراد والجماعات بصورة تطمس المعنى حتى أمام أشد البديهيات وضوحا؛ فإن ما حدث من ردود أفعال بعض المسلمين المتخلفة على خلفية الفيلم الذي أُسييء فيه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، يبدو أكثر وضوحا ودلالة على الحالة المرضية والمشوهة لوعي المسلمين، من خلال تلك الردود التي تميزت بطريقة أشبه بأفعال القطيع منها إلى أفعال البشر الناضجين. فما شهدناه من قتل وتدمير وإحراق للممتلكات في أكثر من عاصمة عربية يدل دلالة واضحة على أن أكثر المبتهجين بتلك الأفعال إنما هم الذين انتجوا ذلك الفيلم وأرادوا منه تحقيق تلك الردود.
وهكذا فإن حدّي التطرف يعكسان اختطافا للعقل والوعي والمنطق؛ وفي الأثناء تزهق أرواح بريئة وتضيع ممتلكات مصونة، وتحرق الكثير من السفارات الأجنبية وكأن تلك الأفعال هي التي يمكن أن تكون الحل الوحيد لمواجهة تلك الإساءة التي عبر عنها الفيلم.
إن ذهنية العنف والمواجهة المجانية عبر الانشداد إلى الرموز بطريقة متوترة والمطابقة بين الجميع في الاتهام، والعجز عن التفريق بين الجهة التي أنتجت الفيلم وبين الحكومة أو الشعب الأمريكي أو الأفراد حتى؛ كل تلك الرؤى المشوشة وما ينتج عنها من عنف ودم وخراب هي التجلي الأوضح لأزمة الشعوب المتخلفة.
وحين يغيب العقل والمعرفة والمنطق فإن أقوى طاقة تدميرية تكمن في حرب الرموز التي عرف منتجو الفيلم كيفية استغلالها بأخبث الطرق، فيما هم ينتهزون ذلك التوقيت المتصل بحادثة التفجير الإرهابي لمبنى برجي مركز التجارة في نيويورك من قبل جماعة القاعدة المتطرفة.
من حق المسلمين أن يغضبوا بطبيعة الحال، ولكن ليس من حقهم أن يقتلوا الأبرياء ولا إحراق الممتلكات. وحين لا يتم الفرز بين الغضب المشروع وبين أفعال القتل والحرق والتخريب فإن ما يكمن وراء ذلك الخلط إنما هو التخلف الذي تظهر ذهنيته بصورة واضحة في مثل تلك الأحداث.
ولأن العقل الجمعي الهائج بطبيعته ينفعل لدلالات الرموز، ويعجز عن رؤية الحق وما يترتب عليه من واجبات؛ فإن ما يتكشف بعد ذلك هو التناقضات التي تعبر عنها ذهنية التخلف. فالذين خرجوا بالآلاف غاضبين من أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ــ وذلك من حقهم بالطبع ومن حق كل مسلم ــ ألم يتفكروا قليلا فيما لو كانت لهم قدرة على الخيال، حين يتخيلوا لبرهة : ماذا كان سيكون رد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان حيا حيال هذا الفيلم المسيء ؟ ألا يمكن أن يستنتجوا من قول الله تبارك وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم (وإنك لعلى خلق عظيم) ومن قول الله تعالى عن المؤمنين (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) تلك الحكمة القائلة (لا تتحدى انسانا ليس لديه ما يخسره) فأولئك التافهون ليس لديهم ما يخسرونه بإنتاج مثل هذا الفيلم المقرف، ولا ينفع معهم إلا أن يرفع المسلمون لافتات سلمية يكتبون عليها (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) .
ذلك أن التصور الإسلامي للرموز الدينية ــ لا سيما الرسل الكرام ــ يتميز برؤية توحيدية أكثر انفتاحا من التصور المسيحي واليهودي للرسل، وهو أقرب إلى روح العصور الحديثة في التسامح. ففي التصور الإسلامي لابد من الأيمان بكل الرسل بمن فيهم عيسى وموسى عليهما السلام (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالو سمعنا وأطعنا). فهنا يمتنع المسلم الحق حتى من الإساءة بالمثل ناهيك عن أن يمارس القتل والحرق، والرد على ذلك الفيلم لا يسمح للمسلم ــ بأي صورة من الصور ــ الإساءة للمسيح عليه السلام، أو لموسى عليه السلام. لكن تخلف بعض المسلمين الغاضبين للأسف لا يسمح لهم بتصور تلك القيم النبيلة في إمكانية ردود أفعال أكثر تحضرا ورقيا.
ولهذا فإن ردود الأفعال المتخلفة تلك ستعيد إلى ما لانهاية انتاج تلك الأزمات مادام خلق تلك الأزمات لا يحتاج إلا إلى اخراج فيلم رديء بأبسط وسائل التصوير ونشره على موقع اليوتيوب من قبل حثالة من البشر مستعدة باستمرار للعب هذا الدور.
ولأن التخلف ينطوي على ذهنية مشوشة ومتناقضة يصبح صاحبها في غضبه أشبه بالثور الإسباني حين يرى الدم؛ فإن تلك الحالة المتوترة دائما بسبب ذلك التشويش تفجر الطاقات المكبوتة أكثر من كونها تعبيرا عن الغضب الإنساني المعقلن .
فأولئك الذين هاجوا وقتلوا وحرقوا كانوا في الحقيقة يعبرون عن انفعالات مكبوتة لأسباب مختلفة نتيجة للجهل، دون أن يكونوا قادرين ــ بسبب ذلك الجهل وتلك الذهنية المشوشة ــ على التظاهر بوتيرة سلمية غاضبة أمام السفارات السورية في العالم العربي والإسلامي احتجاجا على دماء أبناء الشعب السوري التي تسيل يوميا بالمئات أمامهم في شاشات التلفزة على يد المجرم بشار وشبيحته ؟ ودون أن يمتثلوا في غضبهم وتظاهرهم لقول رسول الله في الحديث الصحيح حين نظر إلى بيت الله الكعبة المشرفة وقال (ما أطيبك وأطيب ريحك ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله ودمه)؟!
ولكي ندرك ذهنية التخلف وطريقة اشتغالها فلنتصور تقاعس المسلمين اليوم عن التظاهر أمام سفارات النظام السوري المجرم من أجل دماء الأبرياء التي تسيل في سوريا، قياسا إلى ذلك الهياج العظيم الذي سيصيبهم في هذا الزمان إذا تعرضت الكعبة ــ لا سمح الله ــ لمحاولة الهدم ؟!
وهكذا يمكننا أن نرى أين يقف المسلمون اليوم من حقيقة اسلامهم، ومن معنى حديث رسول الله صلى الله وسلم الذي يعلي حرمة المسلم ودمه وماله على حرمة بيت الله وكعبته المشرفة؟
انه التخلف الذي جعل من حياة الناس في هذا الجزء من العالم المسمى عربيا حياة معطلة وبلا معنى تقريبا.
[email protected]