قبل أيام نقلت شاشات التلفزة العالمية، صورا للممثل الأمريكي المعروف جورج كلوني مقيد اليدين مع والده أمام مبنى السفارة السودانية في واشنطن.
وكان سبب اعتقال الممثل المشهور هو احتجاجه، عقب زيارته لمنطقة جبال النوبة بجنوب كردفان، ووقوفه على مدى الانتهاكات الفظيعة التي وقعت على المدنيين من قتل وتشريد وحرق لمنازلهم بطريقة مخزية عبر طائرات الحكومة ؛ الأمر الذي أدى به للتحرك مع بعض أعضاء الكونغرس والوقوف أمام السفارة السودانية في واشنطن ما أدى في النهاية إلى اعتقاله.
وكان جورج كلوني قبل اعتقاله قد أدلى بشهادة عن الأوضاع الإنسانية بجنوب كردفان أمام الكونغرس حيال الفظاعات التي ترتكبها الحكومة السودانية تجاه مواطنيها في جنوب كردفان.
وبظهور جورج كلوني على شاشات التلفزة العالمية بتلك الطريقة التي تم بها اعتقاله بدا واضحا أن ثمة اقترانا شرطيا استدعى الحديث عن مأساة أبناء جبال النوبة ومعاناتهم في بعض الفضائيات العربية لاسيما في برامج أخبار الصباح لدى قناة عربية معروفة !
ربما يتساءل المرء هنا عن طبيعة تلك التداعيات المفاجئة التي تنعكس على اهتمام الإعلام العربي بمآسي السودان، عندما يهتم الإعلام الغربي بها عبر نجوم الفن والسينما ؟
والحال أن ماحدث في السودان من مآس لم يكن خاضعا لاهتمام الإعلام العربي إلا بتلك الطريقة التي تقتضي ردود فعل تحدث في الغرب ثم تنعكس على إعلام العرب. ولعل في قضية دارفور ما يكشف عن تلك الحالة الغريبة في موقف ذلك الإعلام الذي يعكس دائما تخلفا مشينا، وبطريقة لا ترى في الوقائع معنى واحدا من حيث الأهمية لقد وقعت مجازر في دارفور على خلفية الميز العنصري، وجرى تدمير للقرى وتهجير للسكان وإحراق لمنازلهم بطريقة انتفض لها الإعلام في الغرب إلى درجة وصلت فيه ردود الأفعال إلى مدارس الأطفال في مدن أوربا للقيام بمبادرات من أجل دارفور، فيما كان الإعلام العربي متخاذلا ومتناسيا لما يجري هناك.
إن ذلك الانعكاس المخجل لقضايا السودان الإنسانية في الإعلام العربي من خلال الإعلام الغربي هو في تأويل ما، أثر من آثار المخيلة العربية حيال السودان، وهي مخيلة لا تعنى كثيرا بتحديد القيمة في التغطيات الإعلامية إلا من خلال إدراك متأخر ومتأثر بردود الفعل العالمية.
قد يكون ذلك، في دلالة أخرى، نتيجة لخضوع ذلك الإعلام لإكراهات الأنظمة القمعية، وارتباطه زمنا طويلا بملابسات وتوجيهات تلك الأنظمة بما يفقده القدرة على تمثل قيمة الرسالة الإعلامية بمعناها المستقل، من ناحية، وصدوره عن واقع تخلف متغلغل في نسيج البنية الفكرية والاجتماعية في هذه المنطقة من ناحية ثانية.
والحال أننا سنجد ذلك المعنى المشين أيضا في واقع الحكومة السودانية، وسلوكها الذي يصدر عن مخيلة عربية رثة لشمال السودان، بلغت أسوأ نماذجها الكارثية في ظل حكومة نظام الإنقاذ الذي يحكم السودان منذ انقلاب العام 1989م.
فتلك الحكومة التي أشعلت كارثة دارفور منذ العام 2003 على خلفية تحويل صراع الحواكير في دارفور من صراع في الطبيعة إلى صراع سياسي، عبر الفرز العرقي الذي أنتج تلك الأهوال والمجازر، لا تزال تعيد إنتاج ذلك السلوك في منطقة جنوب كردفان. ولأن أبناء جنوب كردفان هم أيضا من قومية النوبة ذات الأصول الزنجية فإن هناك ما يغري بتجديد أهوال دارفور. لاسيما في ظل تصريحات المسئولين في الخرطوم على خلفية تلك الهجمات الجوية التي شنتها الحكومة على المواطنين مما أدى إلى قتلهم وتشريدهم وإحراق قراهم.
لقد ظل مسئولو الخرطوم يرددون أن ما ينتج عن ذلك القصف الجوي هو من هوامش اندساس المتمردين وسط الأهالي بمنطقة جنوب كردفان ؟ !
وإذا كان هناك عذر أقبح من الذنب فهو في تلك التصريحات العنجهية المتغطرسة لمسئولي الحكومة في الخرطوم من أمثال (قطبي المهدي) (وربيع عبد العاطي) الذين يطلون على الفضائيات العربية بتصريحاتهم..
كيف يمكننا أن نصدق مثل هذه التصريحات المبررة لفعل القتل العشوائي من طرف قوات الحكومة لمواطنيها في منطقة جنوب كردفان، في ضوء إدعاء الحكومة فوز مرشحها أحمد هارون في الانتخابات الأخيرة على منافسه من الحركة الشعبية بقطاع الشمال عبد العزيز الحلو ؟
فإذا كان أحمد هارون ــ وهو أحد الأسماء المطلوبة للمحكمة الجنائية الدولية ــ هو من فاز، حقيقة، في الانتخابات الأخيرة بجنوب كردفان، فكيف يمكن لأهالي جبال النوبة أن يقبلوا باندساس متمردي الحركة الشعبية في صفوفهم ؟ فبحسب زعم الفوز ستصبح منطقة جبال النوبة موالية لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، لا معارضة له ؟
ولعل في الأحداث الأخيرة التي أدت إلى اعتقال النجم السينمائي جورج كلوني على خلفية احتجاجه أمام السفارة السودانية بواشنطن، مايكشف لنا عن بعض الفظائع التي وقعت هناك. فقد قال كلوني ــ بحسب صحيفة الحياة اللندنية ــ أنه (شاهد مئات يفرون ذعرا إلى التلال والكهوف في جنوب كردفان بسبب الطائرات التي تحلق فوقهم باستمرار ملقية القنابل). في ضوء هذه الحقائق المريرة عن الإعلام العربي حيال مآسي السودان. وحيال أوهام حكومة السودان الإسلاموية العروبية، كيف يمكننا عدم فهم تلك الفظاعات التي ترتكبها الحكومة تجاه مواطنيها من غير العرب؟
[email protected]