بعد مرور عام على بداية الثّورة في ليبيا، وانتصارها بتقويض نظام معمّر القذّافي الذي هيمن على مسرح الأحداث لأكثر من أربعة عقود، لا تزال هذه الثّورة مستمرّة ولم تستطع أن تحقّق إلاّ هدفها الأوّل وهو إسقاط النّظام. واستمرار الثّورة ليس ميزة يفاخر بها، لأنّ الثّورة هي حالة من الفوضى تعصف بالمجتمع من أجل إسقاط بنيته الفوقيّة، ويجب أن تنتهي بعد اجتثاث آخر معاقل هذا النّظام التي قامت لتغييره، والأفضل أن تكون هذه الفترة قصيرة زمنيّا بقدر الإمكان، حتّى يتسنّى لهذه الحالة الفوضوية والعنفيّة الانتقال إلى حالة إنشاء المجتمع الجديد المنشود. وكلّ هذا لا يتأتّى إلاّ بإقامة الدّولة، أي دولة العهد الجديد. فأين نحن من هذه النّتيجة المتوخّاة؟
قبل الإجابة عن هذا السّؤال، يجب أن نوصّف الآن الحالة القائمة في ليبيا.
1-إنّ الثّورة كانت شعبيّة بامتياز، ولم تحصل على معونة تذكر من أجهزة الدّولة القائمة كما حدث في تونس ومصر، وذلك بانحياز الجيش الوطنيّ للشّعب في لحظة حاسمة لها ما قبلها وما بعدها. ما قبلها : حالة العنف والتّشظّي، وما بعدها أي الحفاظ على الدّولة باعتبارها أسّ الأساس للخير العامّ، والبيت المشترك الذي لا بدّ من حمايته، حتّى يؤثّث بناء على الذّوق الثّوريّ الجديد. أو بمعنى آخر، هو نقل السّلطة من طبقة أو فئة أو مجموعة أشخاص إلى المتمرّدين عليهم دون المساس بالدّولة. كلّ ذلك لم يتأتّ في الحالة اللّيبيّة، لأنّ نظام القذّافيّ قد قوّض المؤسّسة العسكريّة الوطنيّة من زمن بعيد، واعتمد على كتائب تدين بالولاء لشخصه لا للوطن.
2-إنّ الثّورة في ليبيا، ونتيجة للظّروف الموضوعيّة لمجتمع ما قبل الثّورة جرفت كلّ مؤسّسات الدّولة المتهالكة، فأصبحت مهمّة الثّوّار وقياداتهم في غاية الصّعوبة، لأنّهم مطالبون بإنشاء الدّولة من جديد. وإنشاء الدّولة يتطلّب إحلال العقلانيّة والموضوعيّة في الرّؤى محلّ الرّومانسيّة الثّوريّة التي تصاحب الثّورات دائما. فكلّ ثورة تحمل بعدين أساسيّين : البعد الرّومنسيّ الذي يسيطر على ذهن ومخيال الثّوّار، والبعد العنفيّ الذي يعتبر وسيلة لتحقيق البعد الأوّل. وعندما تحقّق الثّورة هدفها الأوّل وهو إسقاط النّظام، يبقى البعد العنفيّ ويختفي البعد الرّومنسيّ الذي يحلّ محلّه الإحساس بالإحباط والخوف من المستقبل المجهول. هذا الخوف وهذا الإحباط يشكّلان العقبة الكأداء الحائلة دون إنشاء مشروع الدّولة. لأنّ مجموع الثّوّار المسلّحين كما هو في الحالة اللّيبيّة يتخوّف بعضهم من بعض، ويعتبرون التّصدّي لإقامة الدّولة خطرا يمكن أن يفضي إلى الاستيلاء على السّلطة، فتكون النّتيجة تناهب السّلطة بشكل جهويّ أو قبليّ أو إيديولوجيّ، بدلا من تقاسمها بالتّراضي في إطار الدّولة. وإذا استمرّت هذه الحالة القلقة، يكون مصير التّراب الوطنيّ نفسه في خطر، وتكون كافّة الاحتمالات السّيّئة ممكنة.
3-إنّ المسلّحين لا ينتمون إلى حزب أو مجموعة أحزاب منضبطة، أو إلى قبيلة أو مجموعة قبائل متحالفة، بل إنّها مجموعات مسلّحة متباينة فيما بينها من حيث المنطلقات والأهداف. فمنهم من تنكّب السّلاح من أجل إسقاط النّظام الذي أجمعوا على كراهيته، وهؤلاء هم الثّوّار الأوائل، ومنهم من أخذ السّلاح تخوّفا من غريم قديم أو عدوّ محتمل، ومنهم من امتشقه لتحقيق مآرب شخصيّة دنيئة. وهذا ما يفسّر حالة الفوضى والنّهب والقتل والاستيلاء على المال والممتلكات العامّة والخاصّة، وتصفية الحسابات الشّخصيّة والقبلية.
في ظروف مثل هذه، تتكوّن مصالح وحقوق مكتسبة، من خلال الغصب. ممّا يجعل إنشاء الدّولة تهديدا لهذه الحقوق القلقة قانونيّا، والتي يراد لها شرعيّة الأمر الواقع، فتصبح الدّولة غير مرغوبا فيها من قبل هذه الشّرائح على الأقلّ، فتحاول بقوّة السّلاح منع إقامتها.
4-إنّ فكرة الدّولة غائمة عند النّخب المتصدّية للقيادة السّياسيّة في ليبيا. فهم يعتقدون أنّ قيامها يكفي لتحقيقه استصدار التّشريعات مثل قوانين الانتخابات، أو القيام بخلق مؤسّسات كالحكومة المؤقّتة. في حين أنّ الدّولة لا تقوم أبدا دون احتكار القوّة التي تتجلّى في الرّدع القانونيّ العامّ والخاصّ. فإذا كان المجتمع أو جزء منه لا يأتمر بأوامرها، وليست لها القوّة المادّيّة القادرة على فرض الإكراه المادّيّ للإلزام بقوانينها، فهي ليست دولة بل مجتمع متشظّ، كلّ شظيّة قادرة على خلق سننها وأعرافها، وفي أيّ لحظة، ونتيجة لاختلاف المصالح، يمكن أن تتصادم، فتترتب عن ذلك حالة من الفوضى أو حتّى الحرب الأهليّة.
فلو فرضنا جدلا أنّ المجلس الوطنيّ الانتقاليّ أو الحكومة المؤقّتة أرادت أن تطبّق إجراء معيّنا على أيّ مكوّن من مكوّنات المجتمع، فليس لها في الحالة اللّيبيّة غير الالتجاء إلى إحدى المليشيات لتمرير ذلك، لأنّها لا تملك ولا تحتكر القوّة. وهذا يعني أنّ من يطبّق عليه الإجراء سوف لا يرى في القوّة التي استعملت ضدّه قوّة الدّولة المشروعة المحايدة، بل قوّة مجموعة مسلّحة تحاول الهيمنة على مجموعته، ممّا يضطرّه إلى مقاومتها. بل إنّه يعتبر التّصدّي لها حقّا مشروعا، يمسّ وجوده ومجال حيويّة المجتمع، مثل حالة بني وليد على سبيل المثال لا الحصر.
5-إنّ المجلس الوطنيّ الانتقاليّ، ونتيجة لعدم خبرة اكثر أعضائه، كان ثملا بالحالة الرّومنسيّة التي أسلفنا ذكرها، ولم يفكّر في رسم خارطة طريق لإنشاء الدّولة عندما تحرّر الجزء الشّرقيّ للبلاد، وأضاع ستّة أشهر ثمينة دون أن ينشئ النّواة الأولى للجيش الوطنيّ والأمن الوطنيّ. وذلك بسبب تدخّل بعض الدّول العربيّة التي هدّدت بعدم تقديم مساعدات للثّوّار إذا فكّر المجلس بإنشاء جيش وطنيّ. فكانت النّتيجة كارثيّة، وهي وجود هيكل فارغة لدولة وهميّة لا تستطيع حتّى حماية نفسها.
والسّؤال الذي يطرحه الواقع اليوم هو كيف يمكن إنشاء دولة في وجود فوضى السّلاح؟ ومن يستطيع جمع هذا السّلاح؟ وما هي شرعيّة أيّ طرف في نزع السّلاح من طرف آخر؟
إنّهم يتكلّمون الآن عن محاولة إدماج المسلّحين في جيش وطنيّ لا وجود له، كما يتكلّمون عن رشوة المسلّحين بالأموال من خلال إعطائهم قروضا لإنشاء مشاريع اقتصاديّة، أو من خلال إيفادهم للخارج للدّراسة أو إعادة التّأهيل. ولكنّ كلّ هذه الحلول لن تجدي نفعا، لأنّ من يحمل السّلاح يجد فيه ضمانا لحمايته وأهله، وقدرته على اقتسام السّلطة التي تعني فيما تعني اقتسام الأموال.
6-إنّ خاصّيّة المجتمع اللّيبيّ أنّه مجتمع قبليّ قائم على تقاسم الرّيع النّفطيّ. أي أنّ السّلطة تعني في ما تعني الحصول على الأموال والتّحكّم فيها. على خلاف المجتمعين المصريّ والتّونسيّ اللذين يقومان على العمل والإنتاج والخدمات. أي أنّ الدّولة في حاجة إلى المواطن، لأنّ موازنتها وإنفاقها يقومان على تحصيل الضّرائب. لذلك، فإنّ مفهوم الدّولة مختلف. ففي تونس يعلم المواطن أنّ العمل وخلق الظّروف الملائمة لاستتبابه رهين إقامة الدّولة واستمرارها. أمّا في ليبيا، فإنّ المواطن يتعيّش ويتكسّب في الغالبية العظمى على عطاء الدّولة، من سكن أو مركوب أو وظيفة. وباعتبار أنّ من يملك السّلطة هو من يملك المال، فإنّ الصّراع، صراع الهيمنة على الدّولة، سيكون صراعا شرسا، على درجة قد تصل إلى استحالة قيامها.
7-إنّ رأي المجلس الوطنيّ الانتقاليّ الآن متوافق على أنّ الدّولة سوف تنشأ بعد انتخاب المجلس الوطنيّ لصياغة الدّستور، وإنّني أتساءل كيف يمكن أن تقوم انتخابات في انعدام وجود الدّولة وفي فوضى السّلاح القائمة؟
فلأوّل مرّة في تاريخ البشريّة، على حدّ علمي، يحاول إنسان أن يصنع بيضة في خياله وأن ينتظر أن تفقس دجاجة في الواقع. هذا قد يحصل في الأساطير الغرائبيّة المنبجسة من عالم المعجزات، لا في العالم الواقعيّ المعيش.
أريد إجابة عن هذه السّؤال : كيف يمكن أن تقوم حملة انتخابيّة في ظلّ وجود مليشيات مسلّحة تحتكم إلى قوّة السّلاح لا إلى قوّة الحجّة؟ ومن يستطيع أن يذهب إلى صناديق الاقتراع بدون قوّة محايدة تحميه من خصومه المسلّحين؟ ومن يستطيع مراقبة العمليّة الانتخابيّة دون أن يخشى على حياته؟ وفي النّهاية، ما قيمة المجلس الوطنيّ المنتخب، والدّستور الذي سيصدر عنه بدون احتكار الدّولة لقوّة السّلاح حتّى تجبر الجميع على احترامه؟