فى هذه الأيام التي تنتصر فيها الثورة على نظام الطغيان الليبي، وفى غمرة احتفالات الشعب الليبي بهذا الانتصار، خرجت الأنباء والشائعات عن وجود متطرفين إسلاميين جهاديين فى أوساط الثوار، مما أفسد على الليبيين فرحتهم وأثار فى نفوسهم الخوف من المستقبل الذي أملوا فيه نهاية لآلامهم وقهرهم.
فهل لهذه الأنباء وهذه المخاوف ما يبررها؟
سنحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على كل هذه التساؤلات.
بادئ ذي بدء نقول ان ثورة السابع عشر من فبراير قد أشعلها الشباب الليبي الذي لم يكن له أي لون أيديولوجي، وكانت مطالبه واضحة، وهي إنهاء الدكتاتورية وإقامة الدولة المدنية الديموقراطية.
إلاّ أنّ زمن الصراع طال وامتد على مدى ستة أشهر، وهو ما أيقظ الفئات والتنظيمات الأيديولوجية التي كان لها تاريخ فى مقاومة هذا النظام، ورأت فرصتها مواتية في تحقيق أغراضها السياسية. ورغم اتفاق هذه الفئات والتنظيمات مع الشباب الثائر في هدف إسقاط النظام فإنها تختلف معهم فى مقاصدها بعد إسقاط النظام.
ففي حين يريد الثوار وأغلب فئات الشعب دولة مدنية ديموقراطية، يرى هؤلاء أن الدولة يجب أن يكون لها لون مختلف، فهم يسعون إلى إقامة الدولة الدينية. ولعلمهم بأن أغلبية الشعب الليبي سوف ترفض هذا المطلب إذا ما قُدر لليبيين الاختيار الحر، سارعوا الى امتشاق السلاح وحاولوا الهيمنة على قيادة المليشيات التي تقاتل النظام، بل أنشأوا مليشيات خاصة بهم، وتآلفوا مع حركة الإخوان المسلمين كذراع سياسية لتبييض ماضيهم المتطرف ولجلب المساعدات المالية وإمدادهم بالسلاح من بعض الدول ذات الأجندات الاستراتيجية الخاصة فى المنطقة. نضيف إلى ذلك أنّ بعض وسائل الإعلام العربية كرّست حضورهم الإعلاميّ لأّنها عن قصد أو غير قصد لم تستضف غيرهم. ولم يكتفوا بذلك بل هيمنوا على المؤسسات الهشة حديثة الولادة التي أنشأها الثوار. ففي المجلس الوطني الانتقالي استطاعوا أن يسيطروا على رئيس المجلس السيد مصطفي عبدالجليل مستغلين اللّيونة فى شخصيته وميوله الصوفية وجهله بأبجديات السياسة، فأقنعوه بعدم الإعلان عن إنشاء جيش ليبي وطني حتى يتسنى لهم احتكار القوة المسلحة. وقد رأيناهم فى الآونة الأخيرة يصرحون بأن ميليشياتهم سوف تنضم إلى الجيش الوطني الذي لا يوجد أصلاً، وهو ما يعني أن هذا الجيش سيكون مؤلفاً منهم فقط وسيكون تحت قيادتهم. وربما نجد مفتاحا للغز اغتيال اللواء عبدالفتاح يونس فى هذا الأمر بالذات. فوجوده كان عائقا يحول دون إنشاء جيش لهم يصبغون عليه الوطنية الشكلية ويكون أداتهم لتحقيق أغراضهم السياسية.
ولم يكتفوا بذلك بل أقنعوا رئيس المجلس الوطني بضم أعضاء منهم إلى المجلس كممثلين لمدينة طرابلس، وكأن مدينة طرابلس إمارة إسلامية ليس لها من يمثلها غيرهم.
كما مارسوا ضغوطاً كبيرة على رئيس المجلس حتي يعين أعضاء جماعتهم فى المناصب الحساسة. ومثال ذلك أنّ نائب وزير الدفاع هو السيد عبدالحكيم بالحاج الذي سُلم إلى ليبيا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن تم اعتقاله فى جنوب شرقيّ آسيا إثر فراره من ليبيا. هذا الشخص هو المسؤول عن قتل مئات الليبين من مدنيين وعسكريين وأفراد شرطة فى عقد التسعينيات. والمثال الثاني هو تنصيبهم في وزارة الداخلية أحد أفرادهم وهو السيد الساقزلي المعروف بتشدده كنائب للوزير.
أما نائب رئيس مجلس الوزراء، وهو معروف بطموحه السياسي الذي لا يتناسب مع قدراته، فقد أغروه بمستقبل باهر إذا تعاون معهم، لذلك اندفع معهم فى مؤامرة اغتيال اللواء عبدالفتاح يونس، وأصدر قرارت وأوامر مهدت لهذا الاغتيال، ووصل به الأمر إلى تزوير هذه القرارت ونسبتها إلى المكتب التنفيذي الذي رفض إصدارها مسبقاً.
ووصل بهم الصلف إلى إصدار بيان باسم ميليشياتهم السبع عشره، هددوا فيه شباب الثورة الذين لا يدينون لهم بالولاء بالتصفية إذا ما حاولوا كشف ملابسات جريمة اللواء ورفاقه، واعتبروا الأشخاص الذين ساعدوهم على ارتكاب هذه الجريمة خطا أحمر لا تجوز مساءلتهم أو توجيه أصابع الاتهام إليهم.
هذا ما تم فى المنطقة الشرقية مهد الثورة، أما فى المنطقة الغربية، فعندما استشعروا بأن ساعة سقوط العاصمة قد أزفت انتقلوا إلى الجبل الغربي مع عدد لا يتجاوز 300 مقاتل بقيادة السيد عبدالحكيم بالحاج. وبعد انتفاضة ثوار العاصمة، ودخول ثوار الزاوية ومصراته والزنتان إليها وتحريرها، لم نجد غير السيد عبد الحكيم بالحاج في ميدان الشهداء ليعلن أنه قائد المعركة فى طرابلس، وأنه حررها من كتائب القذافي. ثم نجده مرة أخرى فى باب العزيزية يعلن أنه دمر معقل القذافي وقضى على فلوله، في حين أن الذين قاموا بهذا العمل هم ثوار مصراته والجبل الغربي والزاوية وطرابلس العاصمة.
كل ما فعله السيد عبد الحكيم بالحاج هو ركوبه عربة قناة الجزيرة بجوار مراسلها ليكون أول المعلنين عن قيادة العمليات وسرقة الانتصارات.
إن ما يظهر لنا من خلال البانوراما العامة للوضع بليبيا هو أنّ الإسلاميين ذوي التاريخ الجهادي قد سيطروا على مسرح الفعل السياسي ويريدون توجيه البلد وجهة غير تلك التي يبتغيها أغلب الليبيين والعالم. وهذا ما يفسّر تحفظات بعض دول الجوار واحترازات القوى الدولية على انحراف مسار الثورة، وكأنّ الليبيين بدأوا يستيقظون من حلم الثورة على كابوس دكتاتورية جديدة في طور التشكل.
قال لي أحدهم في نقاش معه حول إمكانية قيام الدولة الدينية فى ليبيا إن حكومة حماس الإسلامية وحزب الله اللبناني قد صمدا ضد كل محاولات القضاء عليهما رغم عدم حوزتهما لأسباب القوة المادية، فكيف لا نستطيع إقامة حكم دينيّ في بلد كليبيا، مترامي الأطراف وله ثروة هائلة من النفط والغاز. الغرب سوف يشجب ويهدد وبعد ذلك سوف يحترم الأمر الواقع وسيأتي إلينا بعين واحدة هي عين المصالح وسوف يغمض الأخرى لكي لا يرى ما لا يحب، فالغرب لا يرى غير المصالح وأنفه لا يشم غير رائحة النفط. هذا ما قاله محاوري. فهل ستصدق نبوءته هذه التي تسبح ضد تيار التاريخ؟ وهل الغرب والدول العربية التي ساهمت فى المجهود العسكري ضد نظام القذافي ستقبل باتساع رقعة التطرف، بحيث تلتحق ليبيا بباكستان وأفغانستان والعراق؟ ألا يشترك الجهاديّون والإسلاميون المتشددون في نفس المرجعية ونفس الأهداف؟ لو صدقت هذه النّبوءة لأصيب مكر التّاريخ بنوبة ضحك هستيريّ.
إن الشعب الليبي شعب مسلم لا يزايد عليه أحد في إسلامه. فهو يمارس طقوسه ويُقيم شعائره منذ أربعة عشرة قرناً، ولا يريد أن تأتي اليوم مجموعة تسغلّ دينه الحنيف سياسياً لتمارس عليه الهيمنة البشرية باسم الله.
كما أن الدول العربية المجاورة وكذلك أوروبا لن تسمح بمثل هذا العبث فى بلد مثل ليبيا يقبع في مواجهة أوروبا. فتحوّل ليبيا إلى ملاذ للحركات المتطرفة المعادية لكل القيم الإنسانية الحديثة من شأنها أن يهدّد الأمن العربي والأوروبي.

مالعمل إذن حتى لا تسرق الثورة نهائيا وحتى نرجعها إلى المسار الصحيح ونحمي الشعب الليبي من بوادر فتنه حقيقة، ومن بوادر دكتاتورية جديدة؟
سبق أن أوضحت في مقالات سابقة أننا كليبيين غير قادرين على حفظ أمن الوطن والمواطنين تمهيداً لإجراء كافة الاستحقاقات التي ستنقل الوطن إلى العملية السياسية. لذلك يجب أن نطالب بتدخل قوات أجنبية على الأرض حتى نتمكن من الاستقرار وحتى لا تتغول الفئات المتطرفة على الشعب. وحبذا لو كانت هذه القوات عربية إسلامية، حتى نسحب البساط من تحت أقدام غلاة الإسلام والقومية الذين لا همّ لهم غير رفع شعارات تنتمي إلى الماضي ولا يجدون راحة إلاّ في تحريض أبناء الوطن الواحد على التقاتل. إنهم لا يرون الأحسن إلا في الأسوأ، ويطفئون الأنوار عنوة حتى يتاح لهم صب اللعنات على الظلام.