يستعمل تلفزيون القذافي مقالاتي على غرار قراءة آية (ويلٌ للمصلين) بدون إكمال بقية الآية، وبقطع النّظر عن موقفي الواضح المناصر للثّورة وما سبب لي من استباحة لمنزلي في طرابلس ونهب لكلّ محتوياته، مع رفع للعلم الأخضر فوقه، ومصادرة لجميع ممتلكاتي في البلاد. ولكنّ كل هذه الممتلكات لا تساوي في اعتقادي قطرة دم واحدة من جسد ثائر.
لقد كتبت عدة مقالات فى الشأن الليبي تراوحت بين محاولة استشفاف المستقبل والتنبيه إلى محاذير قد ينزلق إليها الوطن، بُغية تفادي هذه المخاطر المحيقة بالثورة الليبية الظافرة، وبين محاولة نقد بعض الممارسات الخاطئة التي أساءت إلى مسيرة الثورة والثوار والتي يجب على كل المثقفين الشرفاء فضحها والتنبيه الى نتائجها السلبية، حتى لا تتراكم ولا تتمأسس فتصبح عائقاً في طريق إنشاء الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة، كحادثة اغتيال اللواء عبدالفتاح يونس وما تشي به من انحراف عن مسار الثورة والوطن، أو محاولة بعض العناصر التي اندست بين الثوار وامتشقت السلاح سعياً إلى فرض أيديولوجياتها المتطرفة على بقية مكونات الثوار.
وقد هاتفني كثيرا من الأشخاص الذين تربطني بهم علاقة صداقة ومودة، وأعربوا عن تبرمهم مما كتبت، لا لأنهم يخالفونني الرأي فى محتوى ما كتبت، بل لأنهم اعتبروا أن الوقت غير مناسب لفضح هذه الجوانب السلبية، بحجة أن زمن الثورة هو زمن الاصطفاف إلي أحد الفسطاطين : فإما ان تكون مع الثورة وإما أن تكون ضدها، فإذا كنت معها فلا مجال لحساب أخطائها مهما عظمت، لأن ذلك من شأنه أن يفشل الثورة ويذهب ريحها ويفت من عضد الثوار، مما يسهل على الطرف المعادي التسلل إلي صفوفها وإعمال معول الهدم من داخلها. أما إذا كنت فى الصف المضاد للثورة، فمهمّتك الرئيسية لا تتمثّل فحسب في تسّقُط أخبارها، بل في اختلاق الأكاذيب وفي إلباسها ثوب الحقيقة وهذه من فنون الإرجاف، وهو سلاح قديم فى الفتك بالخصوم.
وقد رأيت أن أكتب هذا المقال لا من باب الدّفاع عن نفسي، لأنني لم أرتكب أي جريرة تدفعني إلى الوقوف في موضع الاتهام. فأنا لم أكتب أو أتصرف في يوم من الأيام بأي شيء لم أكن مقتنعا به ومرضيا لضميري، وهذا هو رصيدي فيما مضى من العمر وزادي فيما تبقى لي من الأيام. إنّما أردت أن أوضّح بعض هذه الملابسات وأن أجلي ما قد علق بموقفي من تساؤلات، وما قد يكون قُذف فى روع بعض الناس من ريبة أو اعتراهم من شكوك فيما كتبت أو فيما سوف أكتب فى هذه الأيام المصيرية من تاريخ ليبيا.
لذلك سوف أجمل ما أود قوله فيما يلي :
1.إنني أقف مع ثورة شعبي موقفاً صريحاً وواضحاً لا يحتمل المواربة أو الإبهام ، وكان ذلك بإعلان هذا الموقف فى بداية الثورة وقد نُشر موقفي هذا فى صحيفة الشرق الأوسط ذائعة الانتشار. ولقد انتصرت للثّورة وساندتها لا من أجل غنيمة أرجوها أو من اجل غرمٍ أنتقم لفقدانه، بل إيمانا منّي بأهميّة الثورة بالنسبة إلى شعب قاسى طويلا من الظلم والطغيان والتفقير والفساد. لقد كان من حق شبابنا البواسل بل من واجبهم أن يثوروا لتغيير واقع متعفن تبيّن أنه غير قابل للإصلاح. وإنني من أكثر الناس دراية بذلك لأنني حاولت مع كثير من الشرفاء من أبناء الوطن الإصلاح عندما دُعينا لذلك، ولكن اكتشفنا بعد سنوات من الضحك على الذقون ومن المناورات التي لم تكن تهدف الا لكسب الوقت أنّ هذا النظام لم يكن يريد إصلاحاً، لأنه يعرف كما كنا نعرف أن دخول النظام فى طريق الإصلاح يعني الحكم على نفسه بالإعدام، وكان ذلك أمراً عسيراً على المتشبث بكرسي السلطة وجبروت السلطان. لقد كنا نريد الإطاحة بهذا النظام سلمياً من خلال الإصلاح وكان هو يريد منا أن نكون ديكوراً لإصلاح متوهم من شأنه أن يُطيل عمره. وهكذا فهم شبابنا العظيم أكثر منا حركة مسار التاريخ فانتفضوا فى ثورة عارمة لإسقاط نظام عصي على الإصلاح .
2.يجب الا يفهم أحد من مقالاتي التي كتبت أنني أقف موقفاً سلبياً من المجلس الوطني الانتقالي أو من مكتبه التنفيذي، بل إنني على العكس أعتبر هذا المجلس مكسبا للثورة وأعتبره هيئة مُعبرة عن آمال وطموحات الشعب فى هذه المرحلة. فهو العنوان الوطني الذي يقصده كل من يريد أن يخاطب الشعب الليبي أو يحاوره . لكن هذا لا يعني أننا نكف عن انتقاد تصرف رئيسه أو أي عضو من أعضائه ، أو نكفّ عن كشف جوانب القصور في سياساته، أو نحجم عن فضح أخطاءه الجسيمة التي لو سكتنا عنها لتسببت فى مخاطر كبيرة على مسيرة الثورة ذاتها، ولو بررناها لارتكبنا الخطيئة التي لا تغتفر وهي إنشاء ديكتاتورية جديدة على أنقاض دكتاتورية قديمة.
3.يجب أن نتعلم من التاريخ بأن الشعوب فى كثيرمن الأحيان هي من تصنع جلادها بالسكوت عن أخطائه وبتبرير نزواته. ويتصدى دائماً المثقفون الإيديولوجيون للتنظير لهذه الممارسات المشينة، إمّا بالتلويح بوجود عدو تتطلب هزيمته وحدة الصف، وإمّا بالإشارة إلى وجود طابور خامس في داخل المجتمع يجب مواجهته بلا هوادة. وإذا تراكمت هذه التصوّرات والممارسات التي تحول دون الوظيفة النقدية العقلانية فإنها تفضي إلى صناعة الطغيان وإلى استعباد الشعوب.
4.إن استعمال قنوات القذافي التلفزيونية لمقالاتي أو مقالات غيري بشكل تعسفي مثل ما حصل فى أكثر من مناسبة، وذلك بابتسار فحوى هذه المقالات وإخراج بعض الجمل من سياقها لا يدل على صحة وجهة نظرهم وإنما يدل على quot;صحة وجوههمquot;، فهم لا يقرؤون من مقالاتي على المشاهدين الا ما يريدون قراءته وما يستنتجون منه الا ما يخدم مآربهم الخسيسة. إن عبارة quot;لا تقربوا الصلاةquot; ليست من القرآن فى شئ إن لم تكمل بـ quot;وانتم سكارىquot;. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فإن الاستشهاد المشوه لمقالاتي فى قنوات الطاغية لن تثنيني أبداً عن نقد مؤسسات الثورة عندما ترتكب الأخطاء الجسيمة وعن فضح ممارسات أعضائها المضرة للثورة ولمستقبل الوطن.
5.علينا ونحن فى خضم الثورة وعلى أبواب تأسيس الدولة الديمقراطية أن نفرق بين الإيمان بالمؤسسات الديمقراطية وبين رفض عصمة من يديرها. فالمواطن الذي يؤمن بالديمقراطية يحترم البرلمان ويحترم الحكومة ويحترم القضاء كمؤسسات قارة فى الدولة ولكن هذا لا ينزع حقه فى نقد سلوك مكوناتها البشرية وفضح الانحراف في سلوك أعضائها ، وهذا هو الطريق الذي يسلكه أي شعب لا يريد أن يسقط فى وهدة الطغيان.
6.إن الثورة ليست هدفاً فى حد ذاته وإنما هي وسيلة عنفية لتحقيق المجتمع المأمول، لذلك فإن الدفاع عن أخطاء الفاعلين فيها عندما يريدون تحريف مسارها خدمة لمآرب شخصية أو من أجل نزعات عقائدية هو أقرب الطرق للوصول الى الهاوية.
7.إن من يعتقد أن مقالاتي أو مقالات غيري سوف تضر بالثورة أو ينتفع بها النظام القمعي واهم، لأن الثورة سوف تنتصر لا محالة ولأن نظام معمر القذافي الطاغية سوف يسقط وفى أقرب الآجال، ولكن سوف يكتشف الناس صحة أو خطأ ما أكتب بعد السقوط المدوي لهذا النظام. فالمحاذير التي نبهت إليها من الضروري تداركها حتى يكون يوم سقوط نظام القذافي هو يوم تدشين الدولة المدنية الديمقراطية التي نامل فى قيامها بدون العوائق التي نحرص على إزالتها من طريقها، حتى لا نقع مستقبلاً فريسةً لخيبة الأمل، فكفانا خيبات على مدى كل هذه العقود المنصرمة.
8.أعاهد القراء على الاستمرار في الكتابة والنقد لكافة الظواهر السلبية التي قد تصاحب هذه الثورة وكلي رجاء بأن يكون الفيصل فيما نقول أو نعمل هو ميزان المصلحة الوطنية، والغيرة على الثورة التي حققها أبناؤنا ونحن ما كنا نحلم بأن نعيش أيامها المجيدة لولا إرادتهم وعزمهم.
فشكراً للثوار الشرفاء الذين ايقظونا من كوابيسنا المرعبة، وسمحوا لنا باستشراف واقع جميل، والمجد لمن استشهد منهم والخلود للوطن.