إنّ هجوم الإخوان المسلمين الإعلاميّ على دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخرا هو محاولة تدرين آخر رئة للأنسنة في البلاد العربيّة. فبعد انتشائهم بالانتصارات الانتخابية، في بعض الدّول العربية، اعتقدوا أنهم باتوا يملكون مصائر المنطقة، وأنهم قادرون على الهيمنة عليها من خلال أيديولوجيتهم التي تعد بتحقيق أحلام البؤساء الذين تعجّ بهم بلداننا المظلومة.
فلماذا الهجوم المبرمج على الإمارات بالذّات؟ إنّ هذا الهجوم الشّرس الذي رأيناه مؤخّرا يمكن أن نطلق عليه كلمة quot;الصّراع بين الأيديولوجيا والنّموذج التنمويquot;.
فلنرجع قليلا إلى الوراء، لنحاول فهم ما يحدث اليوم. في الوقت الذي كان فيه الكثير من زعماء الدّول العربية غارقين في بيع صكوك الجنّة الأرضية من خلال إيديولوجيات مختلفة، من وحدة عربية غير قابلة للتحقق إلى تبشير ببعث الأمة من جديد، إلى حكم باسم البروليتاريا في دولة لا يوجد فيها عمال أصلا، إلى ابتداع لنظريات عالمية لا تشي بغير أمراض نفسيّة، كان ثمّة زعيم بدويّ بسيط ليس له من متاع غير حبه أهله والناس، هو الشيخ زايد بن سلطان. لم تكن لديه نظرية يبشر بها، ولم يكن له حزب قائد للمجتمع والدّولة، ولم يكن يسعى إلا لشيء واحد، هو خلق دولة التنمية في أكثر المناطق تخلفا في العالم.
لم يكن العالم يلتفت إلى ما يصنعه هذا الرجل في صمت وعمل دؤوب، لأن العالم يلتفت دوما لمن يحدث الضجة والصخب. ماذا حدث بعد ذلك؟ حدث أن زعماء في منطقتنا ومن كانوا يحملون النظريات الكبرى والمراهنات المبالغ فيها سقطوا أغلبهم بين حروب قادتهم إليها نزواتهم التّوسعية، أو احتراب أهليّ بانفجار مرجل التناقضات الداخلية، وكمية العسف والظلم. سقطوا الواحد بعد الآخر، وتردّت أوهامهم في وهاد العدمية، ولكن هذه الشعوب ولأسباب عديدة، لا يمكن الحديث عنها في هذه العجالة. ونتيجة لقتل الأب الكريه، أضحت تبحث عن أب آخر فوجدت في الإيديولوجيات الخلاصية مبتغاها، وعلى الأخص تلك الإيديولوجيات التي كان معتنقوها قد لاقوا الأمرين في رحلة العذاب الشمولية. هذه الإيديولوجيات المتعالية على الإنسان والتاريخ ليس لها من قوة دفع غير العداء للآخر، أي كلّ من يفكّر في شؤون الدنيا بشكل مختلف، لأن الاختلاف غير مقبول لديهم لاعتقادهم بملكية الحقيقة المطلقة. وتبقى أمام حملة هذه الإيديولوجيات ومناضليها معضلة لا يمكن تجاوزها، هي النموذج المترسخ على الأرض، ونعني به نموذج الشيخ زايد في التنمية المستدامة، أو تجربة دولة الإمارات التي يشار إليها بالبنان في مشارق الأرض ومغاربها. لا شكّ أن حملة الإيديولوجيات وبائعي الأوهام غير القابلة للتحقق هم اليوم أمام خيارات كلها قاتلة: إما أن ينتجوا نتائج تنموية مستدامة مثلما فعلت الإمارات، وإما السقوط المدوّي لعدم تلبية طموحات وأحلام الجماهير التي زرعوها في عقولها بالشعارات الزائفة. إنك عندما تتحدث اليوم مع أكثر شباب العرب يقولون لك: لماذا لا نكون مثل دولة الإمارات؟ أي أنهم يريدون تنمية حقيقية لبلدانهم، حسب ظروف كل بلد، وبأقل نسبة من البطالة والفساد والمظالم.
إن معادلة الشيخ زايد لم تكن تنمية مادية فحسب، بل هي تنمية مادية مأنسنة، لذلك نجد الشباب العربي عندما يزور هذه الدولة تنتابه عدة مشاعر : التعجب من وجود بلد عربي أعطى مثل هذا النموذج، والشعور بالأسى على وطنه الذي لازال يتخبط في التخلف والفقر والعوز. أما المتأدلجون منهم فهم يرون هذا البلد عقبة كأداء مجسمة لا بدّ من القضاء عليها أو تشويهها على الأقل، وهذا هو سبب الهجوم الأخير من الإخوان المسلمين على هذه الدولة. لأنّها ليست إيديولوجية يمكن دحضها بالمواعظ والخطابات والفضائيات، بل هي واقع متعين ملموس تهفو إلى استنساخها ملايين العرب البؤساء.
إن المعركة الآن هي بين نموذج حضاري وإنساني ناجح، وبين إيديولوجية تبيع أوهام صكوك الخلاص. هي معركة بين بؤس الإيديولوجية التي تواجه إكراهات الواقع وبين نموذج في التنمية والازدهار شبّ عن الطوق وأصبح قادرا على الدّفاع عن نفسه بإنجازاته وليس بالدعاية لها. هي كذلك معركة بين الآراء والأرقام، بين آراء تحاول أن تغير العالم بالكلام والمواعظ، وأرقام باردة لم تلد يقينها في ذاتها.
شكرا للشيخ زايد الذي أعطانا بدون قصد تجربة يمكن لنا بها مجابهة الأيديولوجيات البائسة في زمن يبحث فيه العربي عن الخلاص.