في المقال السّابق عدّدت الأسباب التي تحول دون قيام الدّولة في ليبيا. وفي هذا المقال، أحاول أن أضع السّيناريوهات الممكنة للخروج من المعضلة : أي كيف يمكن بناء الدّولة اللّيبيّة من العدم؟
بادئ ذي بدء، يجب أن ننبّه إلى أنّ عدم قيام الدّولة بعد سنة من قيام الثّورة، وخمسة أشهر من انتصارها تترتّب عليه آثار سلبيّة تزيد من تعقيدات الموقف المعقّد أصلا، وتنذر بتداعيات خطيرة على مستقبل البلاد.
1-إنّ توقّف الأنشطة الحياتيّة منذ سنة يجب أن لا يستمرّ، لأنّ هذا التّوقّف يزيد من إحباط النّاس في بلوغ الحياة الكريمة التي ثاروا من أجلها. وفي نفس الوقت، يحرم الأسر التي لا تعتمد على المرتّبات والأجور من الخزينة العامّة قدرتها على العيش، وهذا ما سيدفع الكثير من النّاس إلى التّكسّب بطرق غير شرعيّة، ممّا يزيد في مقارفة الجريمة.
2-إنّ غياب الدّولة يمكّن بعض المتنفّذين من نهب الثّروات العامّة، فتتشكّل عصابات أصحاب الياقات البيضاء للاستيلاء على المال العامّ.
3-كما أنّ غياب الدّولة يجعل البلد وكرا للعصابات الإجراميّة المنظّمة، سواء كانت إيدولوجيّة كالقاعدة أو السّلفيّيين، حفّاري القبور، أم العصابات التي تهدف إلى الكسب المادّيّ كعصابات تهريب البشر إلى أوروبّا، ومهرّبي المخدّرات. وهذا ما يمثّل خطرا يهدّد الأمن الإقليميّ والدّوليّ.
4-في غياب سلطة الدّولة المركزيّة، تتكوّن سلطات الأمر الواقع في الأطراف، فتستخدم العنف ويركن إليها الناس لحمايتهم. ومع مرور الوقت، يصبح اجتثاثهم لمصلحة الدّولة المركزيّة أمرا في منتهى الصّعوبة. ويفقد النّاس الثّقة في الهياكل المؤقّتة القائمة كالمجلس الوطنيّ والحكومة الانتقاليّة، ويشعرون بعدم جدواها، فتزول عنها تلك القشرة الواهية من الشّرعيّة التي تقوم عليها.
5-كما أنّ عدم قيام الدّولة يضيّع على الشّعب وقتا ثمينا من أجل إيجاد فرص العمل للشّباب، العمل الذي يصاحب التّنمية المستدامة، ويفقر الخزينة العامّة التي ستتحمّل الإنفاق على عموم الشّعب دون أن يكون ذلك مقابل جهد أو عمل. وهذا يكرّس ثقافة التّسوّل والاستجداء التي ابتدعها العهد البائد.
6-كما أنّ بعض المناطق التي تحتوي على ثروات طبيعيّة والتي كانت تشعر بالتّهميش في العهد السّابق قد تتزايد هواجسها من مركزيّة اللّادولة، فتحاول خلق كيانات إقليميّة مستقلّة بحجّة عدم قدرة الكيانات السّياسيّة على إنشاء دولة، وبحجّة الخوف من استمرار تردّي الأوضاع الأمنيّة والاقتصاديّة فيها.
7-إنّ ليبيا النّفطيّة متمنطقة بشعوب فقيرة، وعدم وجود دولة قد يغري بعض القبائل الأجنبيّة بالتّجنّد في صفوف بعض المغامرين لاحتلال أجزاء من التّراب الوطنيّ تتركّز فيها الثّروات الطّبيعيّة، فيخلق ذلك وضعا عسكريّا وديمغرافيّا يصعب التّعامل معه في المستقبل. وهذا ليس سيناريو محتملا، بل هو واقع ملموس، أصبح باديا للعيان في مناطق مثل مرزق والكفرة اللتين احتلّتهما قبائل غير ليبيّة، حتّى إنّ المجلس الوطنيّ الانتقاليّ الذي يجهل تركيبة هذه المناطق السّكانيّة يتعامل مع غير اللّيبيّين الذين احتلّوا هذه المناطق الاستراتيجيّة الحاوية لجزء كبير من النّفط والغاز والماء.
8-إنّ انتشار السّلاح في ظلّ غياب الدّولة وتهريبه خارج الحدود قد أوقع دول المنطقة في مشاكل جمّة، مثل الحرب القائمة الآن في شمال مالي، ووجود أسلحة في الأراضي الجزائريّة ومحاولة تهريب السّلاح إلى تونس أكثر من مرّة. وهذا ما يجعل من ليبيا مصدرا للتوتّر لكلّ المنطقة، بل إنّ الرّئيس أوباما صرّح مؤخّرا بأنّ الحالة اللّيبيّة تمثّل خطرا على الأمنيّ الأمريكيّ.
ما العمل إذن أمام هذه المخاطر والتّحدّيات؟
العمل هو الإسراع في رسم خارطة طريق لإنشاء الدّولة من خلال المجلس الوطنيّ الانتقاليّ والحكومة المؤقّتة، وإعلان ذلك بوضوح للشّعب، ووضع جدول زمنيّ محدّد لكلّ مرحلة. غير أنّ هذا لا يمكن أن يتأتّى في هذا الكمّ المهول من المليشيات وفوضى السّلاح التي تعمّ أرجاء البلاد بدون مساعدة أجنبيّة.
فنحن عندما نتحدّث عن إقامة الدّولة نقصد إنشاء وتفعيل الأجهزة والمؤسّسات الضّروريّة لأيّ اجتماع بشريّ بدون الدّخول في محتوى التّوجّهات والمقاصد والأهداف التي سوف تقوم عليها الدّولة الجديدة. أي أنّنا ملزمون بخلق تلك الأدوات الضّروريّة لتحقيق السّلام الاجتماعيّ، حتّى يستطيع الشّعب أن ينجز خياراته السّياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة من خلال الدّستور والقوانين الأساسيّة.
لا بدّ من أدوات تكفل للحكومة الانتقاليّة الإيفاء بالتزاماتها لإيصال البلد إلى الأهداف المعلن عنها، وأهمّ هذه الأدوات والمؤسّسات إنشاء الجيش والأمن الوطنيّين، وضمان كافّة الخدمات الضّروريّة للمواطنين، وإطلاق الإمكانيّات البيروقرطيّة وتحسين أدائها. لأنّ الإدارة هي العمود الفقريّ لأيّ دولة، ولا يتصوّر أن تكون هناك دولة بدون إدارة. ولا بدّ من تفعيل المؤسّسة القضائيّة التي لا يمكن أن تشتغل بدون احتكار الدّولة للقوّة وتحسين أداء الإدارة. بعد ذلك، يمكن الحديث عن قانون الانتخابات، وتشكيل الهيئة الوطنيّة المستقلّة لها. فتعطّل عمل القضاء، وتفسّخ الإدارة وانعدام الأمن يعني أنّنا وصلنا إلى مرحلة اللّادولة. ومن يعتقد أنّ بالإمكان قيام الانتخابات ووضع دستور في هذا الوضع المتردّي سوف يكتشف عبثيّة مراهقته السّياسيّة، لكن بعد فوات الأوان.
فكثير من النخب في ليبيا تعتقد أنّ إنشاء الدّولة لا يتمّ إلاّ بعد وضع الدّستور، وهذا خطأ سياسيّ فادح، فهو وضع للعربة أمام الحصان. لذلك يتحتّم على المجلس الوطنيّ الانتقاليّ والحكومة المؤقّتة أن يوضّحوا للشّعب، وبعبارات صريحة، أنّه لا يمكن إنجاز أيّ شيء من تطلّعات الجماهير بدون قيام دولة، وانّ قيامها لن يكون بالمجهود الذّاتيّ في ظلّ ما أسلفنا، وانّ حتميّة المساعدة الأجنبيّة لأجل امر لا يمكن الهروب منه.
فكيف تكون هذه المساعدة؟ هل من خلال الأمم المتّحدة والجامعة العربيّة أم كليهما؟ هذه خيارات سياسيّة يجب على المجلس الوطنيّ الانتقاليّ البتّ فيها وتحمّل مسؤوليّاته التّاريخيّة في ذلك.
إنّ استجلاب قوات عربيّة إسلاميّة إلى البلاد لمساعدتنا في إنشاء جيش وأمن وطنيّين وتجريد المسلّحين من السّلاح، بأجندة واضحة وبمدّة محدّدة سلفا حتّى نتمكّن من إنشاء الدّولة التي سوف تقوم بعد إنشائها بإجراء الانتخابات ووضع الدّستور، وإرساء قواعد العهد الجديد الذي انبثق من مقاصد الثّورة.
أمّا إذا لم نقم بذلك، وأشحنا بوجوهنا عن الحقيقة المرّة، فإنّ بلادنا مقدمة على مخاطر كبيرة قد تجرّها إلى فوضى عارمة. وإذا وصلنا إلى هذه الحالة، لا سمح الله، فسوف تتدخّل قوات أجنبيّة بدون موافقتنا، وبأجندتها وليس بأجندتنا الوطنيّة، ونكون بلك قد ساهمنا جميعا في صنع الكارثة.
التعليقات