هي واحدة من علامات حالة التردي في الثقافة المصرية، أن يجد غير متخصص في القانون مثلي نفسه مضطراً لأن يسطر كلمات بأمل أن يفهم منها جهابزة متخصصون بعض ما يفترض أن يعلموه للناس بخطابهم وأدائهم، لهذا فليس من قبيل المبالغة أو التشاؤم القول أننا نعيش الآن مرحلة انحطاط لا يبدو للشاطئ الآخر من مستنقعها أي إشارات!!
وجدت القوانين عندما ترك الإنسان مرحلة الالتقاط في الغابات، وبدأ يدخل مرحلة الرعي ثم الزراعة وما تلاها من مراحل حضارية، أي عندما ودَّع الإنسان العيش منفرداً، وبدأ يعيش في تجمعات يربط بين أفرادها علاقات، كنتيجة لظهور بوادر الاعتماد المتبادل، وكان هذا يعني ضمناً وجود قواعد أو قوانين تحكم هذه العلاقات، كما تحفظ حقوق الإنسان الفرد الشخصية وسط الجماعة، وتقي الفرد والمجموع خطر تجاوز أو تعد مارق لهذه الحدود، فكان قانون العقوبات الشفاهي أو العرفي بداية والمدون لاحقاً، عقاباً وردعاً لمثل هذا الخروج على قواعد أو قوانين الجماعة.
تطور النشاط الإنساني وانتقل من مرحلة لأخرى، وتواكب مع ذلك تزايد أعداد البشر وتضخم تجمعاتهم، بداية من قرى إلى مدن، وارتباط المدن لتشكل ولايات ثم دول وإمبراطوريات. . لم يكن الأمر بالطبع مجرد تزايد في الحجم أو الكم، وما يترتب عليه من الحاجة لتطوير القوانين لتناسب التجمعات البشرية بحجمها المتزايد، بل كان تطور النشاط الإنساني، وما صاحبه من تزايد العلاقات وتعقدها وظهور علاقات جديدة باستمرار بين الأفراد والمجموعات. . أدى هذا بالتبعية لضرورة تطور القوانين بما تشمل من قواعد وعقوبات، لكي تساير الحاجة المتطورة لتحقيق ذات الغرض الواحد الذي لم ولن يتغير، وهو quot;حفظ حقوق الفرد والجماعةquot; من أي انتهاك أو تعد.
نحن إذن أمام حالة تطور مستمر لا يتوقف ما لم يتوقف تطور البشر، ومع ذلك يبقى هنالك ثابت واحد وحيد، يمكن أن نسميه quot;الغايةquot; أو quot;المقصد الأعلىquot;، أو نسميه quot;إرادة الشعب والمجتمعquot;، كما كان هناك دائماً من يعتبره quot;المقاصدquot; أو quot;المشيئة الإلهيةquot;، كما يُعَدُ الخارجون عن القانون هكذا خارجين على quot;المشيئة الإلهيةquot;، وبذا يستحقون عقاباً في الحياة الآخرة، بالإضافة إلى عقابهم في هذه الحياة الدنيا. . هذا الوصف الأخير لما يحتاجه المجتمع وأفراده من حفظ لحقوقهم ومعاقبة من ينتهكها هو وصف متسق مع جوهر الفكر الإنساني والديني معاً، باعتبار الإله هو مصدر الخير وحارسه، وما الخير إلا حفظ حقوق الناس وانتظام علاقاتهم ومعاقبة وردع المنتهكين لها؟
quot;نصوص القوانينquot; إذن بما تشمل من عقوبات ليست quot;غايةquot; في ذاتها، وليست هي ذات quot;رغبة المجتمعquot; أو quot;الإرادة الإلهيةquot;، لكنها مجرد quot;وسيلةquot; لتحقيق quot;غايةquot; أو مقصد أعلى، ولما كانت الحياة والعلاقات الإنسانية التي تحكمها هذه القوانين متغيرة، فإن تحقيق المقاصد العليا لا يتحقق إلا بأن تلهث القوانين خلف المتغيرات لكي تسايرها، قبل أن تصبح قوانين متحفية عاجزة عن تحقيق ما وضعت لأجله، بل وقد تصبح مع الوقت والتغيرات معوقة وربما مضادة للغاية العليا بعد أن كانت quot;وسيلةquot; لتحقيقها وتفعيلها.
نستطيع أن نسمي الغاية العليا quot;روح القوانينquot;، وأن نسمي القواعد الموضوعية quot;نصوص القوانينquot;، ليكون الثابت دائماً هو quot;روح القانونquot;، أما quot;النصquot; فمتغير لكي يتوافق دوماً مع quot;الروحquot;، وحتى في زمان ومكان محددين، يحتاج القاضي أو المُحَكِّم بالقانون إلى فهم وإدراك quot;روح القانونquot; لكي يستطيع تطبيق نصوصه التطبيق الصحيح، وافتقاد القاضي لهذا الفهم لابد وأن يترتب عليه تطبيقاً معيباً أو جائراً للقانون.
القانون ذاته عبارة عن ثلاثة أجزاء: القواعد والعقوبات والإجراءات. . quot;القواعدquot; هي التعليمات والأوامر، أو النقاط المقصودة بالحماية من التجاوز، أن أنها هي quot;الوسيلةquot; التي تحقق quot;الهدفquot;، أما quot;العقوباتquot; فهي quot;الوسيلةquot; التي يتم عن طريقها حفظ quot;القواعدquot;، كما أن quot;الإجراءاتquot; هي quot;الوسيلةquot; التي تضمن عدالة ودقة توقيع quot;العقوباتquot; على من يستحقها بالفعل.
نلاحظ هنا أنه كما وجدنا أن quot;القوانينquot; أو quot;القواعدquot; ليست quot;غايةquot; في ذاتها، وإنما هي مجرد quot;وسيلةquot; لتحقيق quot;غايةquot; هي الثابت الوحيد أي quot;المقاصد العلياquot; أو quot;حفظ حقوق المجتمع والأفرادquot;، وبالتالي فلابد للقوانين أن تتغير مع تغير الظروف والأحوال والزمان والمكان، لتستطيع أن تكون quot;وسيلةquot; جيدة وفعالة في تحقيق الغاية، فإننا نجد كذلك أن quot;العقوباتquot; ليست غاية في ذاتها، وإنما هي أيضاً quot;وسيلةquot; لتحقيق غاية أعلى منها هي quot;حفظ القوانينquot;، ولكي تظل الوسيلة فعالة ومناسبة لابد هي الأخرى أن تتطور من تطور الأحوال، وإلا سوف تفشل في تحقيق الغاية وهي quot;حفظ القوانين، وبالتالي تفشل quot;القوانينquot; كوسيلة في حفظ وتحقيق quot;الغاية النهائيةquot;، التي هي quot;المقاصد العلياquot; أو quot;إرادة المجتمعquot; أو quot;المشيئة الإلهيةquot;.
وكذا بالنسبة quot;لإجراءات الضبطquot;، هي الأخرى ليست غاية في ذاتها، وإنما هي وسيلة لغاية أعلى هي quot;ضمان عدالة تطبيق العقوباتquot;، ولابد من خضوعها لسنن التغيير لضمان كفاءتها في تحقيق غايتها القريبة، وهكذا وصولاً لذات quot;الغاية النهائيةquot; الثابتة وحدها في عالم الثابت الوحيد فيه هو التغيير.
هكذا نتوجه لأولي الألباب الذين يفقهون quot;المقاصد العلياquot; الإنسانية أو الإلهية، والذين يحرصون عليها من أجل quot;خير الإنسان والإنسانيةquot;، والتي يؤمن الأتقياء أنها هي ذات quot;المشيئة أو الإرادة الإلهيةquot;، نقول لهم أن تحقيق هذه المشيئة يحتاج إلى quot;وسيلةquot; أي quot;قوانينquot; جيدة ومناسبة، ولكي تكون الوسيلة كذلك لابد وأن تتسق مع ظروف الحياة المتغيرة، فهي أن ظلت ثابتة ولم تواكب متغيرات الحياة ستفشل في تحقيق الغاية، بل وقد تؤدي للمضاد quot;للغايةquot; التي كانت في يوم ما تحققها، وكذا الأمر بالنسبة quot;للعقوباتquot; وquot;الإجراءاتquot;، فثباتها لن يؤدي إلا إلى فشلها في تحقيق الغايات القريبة ومن ثم الفشل في تحقيق quot;الغاية النهائيةquot;.
لا أجد ثمة داع لأن أعقب هذه الكلمات بكلمات أخرى تضع النقاط على الحروف، فالأمر واضح لكل ذي عينين، أما من عشت عيناه وانغلق عقله وقلبه، فلا فائدة من أي كلمات مهما كانت قوية لتفتح ما انغلق من فهمه. . أتعشم أن أكون بهذه الكلمات quot;قد ناديت حياًquot;، وأن quot;أجد حياة فيمن أناديquot;!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]