بادئ ذي بدء
هذه السطور موجهة فقط لمن يحبون الحياة وليس لأعدائها. . لأصحاب العقول القادرة على التفهم والمراجعة، وليس للعاجزين أسرى الدوجما والأيديولوجيا. . لأصحاب المشاعر الإنسانية المرهفة، وليس للوحوش الكاسرة التي انشقت عنها أرضنا فجأة. . موجهة لكل من يبحث بجدية عن طريق يخرجنا من ورطتنا الحضارية التي نرزح فيها منذ قرون يصعب حصرها. . هي دعوة لنراجع فربما نتراجع عن السير في الطرق المسدودة حالكة الإظلام. . هي بالتأكيد مهداة لكل من يضع طفله الصغير نصب عينيه، ويشفق عليه أن يشب وسط بركة من الدماء والكراهية.

من الطريف أو حتى المذهل أن يعاني داعية شعب للسلام الأهوال، بدءاً من اتهامه بالعمالة والخيانة، أي محاولة اغتياله معنوياً، وربما يصل الأمر إلى استهدافه بالاغتيال المادي، فيما ترفع الجماهير داعية الحرب واستمرار العداء على الأعناق، رغم فارق الثمن الباهظ بين ما سيترتب من نتائج على كل من الحرب والسلام. . ربما هذه واحدة من أبرز المفارقات العربية، خاصة وأن هذه الحالة موجودة ومزدهرة رغم أن شعوب المنطقة عانت الحروب المستمرة وأهوالها لأكثر من نصف قرن، فقد نغفر هيام العامة بالحروب إذا لم تكن قد جربت نتائجها، لكن ربما البلادة الثقافية والتحجر هو ما يجعل نخبنا (وليس الشعوب ذاتها) تتوقف عند نقطة معينة ترفض أو تعجز عن مبارحتها، وربما تتصور في نفسها إذ تفعل ذلك البطولة، أو ما قد تسميه الثبات على المبدأ!!. . كما قد يغتفر التشبث بالعنف والحروب لشعوب قادرة تحقق انتصارات متتالية، تسكرها وتعوقها عن الرجوع إلى جادة الصواب، لكنه لا يغتفر لتلك الشعوب صاحبة أكبر سجل في الهزائم والانكسارات، والتي لا تمتلك أي من مقومات القوة، وعلى رأسها في عصرنا العلم، فلا تكاد تخرج من حضيض هزيمة حتى تلحق بها أخرى.
الوضع الإقليمي والعالمي الآن قد خلف وراءه مركزية الصراعات الإقليمية، مثل الصراع حول فلسطين بين العرب واليهود، لتتوارى مثل هذه القضايا للدرجة الثانية إن لم يكن الثالثة أو الرابعة، لتتقدم قضية محاربة الإرهاب إلى صدارة المشهد، تليها قضايا البيئة ومحاربة الفقر والأوبئة التي تنتشر بين مختلف البلاد بسرعة غير مسبوقة، فهي الأعداء المشتركة الآن للبشرية، ما ساهم في تدعيم مرحلة العولمة، فلم يعد الاقتصاد وحده ما يربط بين أطراف العالم، وإنما أيضاً وبالدرجة الأولى وحش الإرهاب الخرافي الذي يهدد الحضارة من أساسها، ليس فقط بما يتسم به من عنف قاتل، ولكن بما يهدد به من رؤى ظلامية مخيفة يريد فرضها على الحضارة والإنسان. . بالطبع لا يعني هذا التراجع في الأولوية تجاهل القضايا والمشاكل الإقليمية وتركها تتفاقم، بل بالعكس يحرض على الإسراع بحلها، حتى لا تكون شرخاً في الجبهة المفترض قيامها في مواجهة تسونامي الإرهاب.
من الواضح الآن وبعد عقد كامل من أحداث 11 سبتمبر 2001 المفصلية، والتي توجه العالم على أثرها لمحاربة الإرهاب، أن المصير المشترك هو الذي يجمع الشعب الإسرائيلي بشعوب المنطقة، بل هو يهدد الشعوب العربية التي أنتجته، بأضعاف مضاعفة لتهديده إسرائيل. . أن نقاوم الإرهاب معاً، بدلاً من هذا الانقسام الغريب، الذي يضع إسرائيل في معسكر محاربة الإرهاب، ويضع الشعوب العربية في مصاف من ينتجون الإرهاب ويشجعونه، وهذا بالتأكيد غير حقيقي على مستوى إنسان المنطقة العادي، وإن كان لا يخلو من حقيقة فيما يتعلق بنخب متهوسة تسيطر على الشارع العربي، وحكام طغاة فاسدين تعد حالة الاستقطاب هذه فرصة ذهبية لهم لدوام سيطرتهم على مقدرات شعوبهم، ونظام الأسد في سوريا هو المثال الصارخ لهذا، فهو يقدم نفسه لشعبه وللعالم العربي على أنه حامي حمى القضية الفلسطينية، وقائد ما أطلق عليه جبهة الممانعة، وقد افتضح الآن قيمة الشعب السوري وقيمة دمائه لديه!!. . الحقيقة هي أن من يتمسكون بتوجهات وشعارات هؤلاء باسم الدفاع عما يسمى مقاومة ومنظماتها الإرهابية لا يدافعون حقيقة عن الشعب الفلسطيني المطحون، ولكن فقط عن دوام العداء والكراهية، واستمرار معاناة وتشريد الشعب الفلسطيني.
علينا إذن أن نسارع بالتكاتف لمحاربة الإرهاب، ليأتي حل القضية الفلطسينية من خلال الجهد المشترك بين طرفي الصراع، فمصر وإسرائيل على وجه الخصوص وبالدرجة الأولى بين شعوب المنطقة تتحملان مسئولية كبرى تجاه الشعب الفلسطيني، وهي مساعدته على الشفاء من ثقافة الإرهاب، والتخلص من الإرهابيين المرتزقة الذين تفشوا في الجسد الفلسطيني كما السرطان، وفتح الطريق أمامه لتأسيس حياة أفضل. . مشكلة الشعب الفلسطيني ومثله الشعب المصري -وإن كانت حالة الأول أسوأ- هي أنه منكوب بنخبته المأفونة، ونعرف أنه لو استيقظت وتحركت الشعوب، لابد أنها ستفرز نخباً جديدة تقودها لمستقبل مختلف تماماً، لكن تغيير الثقافة لن يأتي عبر الوعظ والإرشاد فقط، وإنما الأهم بتغيير حقائق الواقع الحياتي لهذا الشعب، لتحريضه على حب الحياة، بدلاً من اليأس منها إلى حد كراهيتها، فيهرب من تحديات الحاضر إلى العيش في ثارات الماضي وعدواته، ويذهب إلى تقديس الانتحار بالأحزمة الناسفة، ليس فقط لتدمير الآخر، ولكن لسرعة العبور إلى حياة أفضل في العالم الآخر!!
شيء من هذا التغيير المادي الضروري يحدث بالفعل منذ سنوات في الضفة الغربية، والتي تقع تحت مسئولية سلطة فلسطينية وطنية بحق، بقيادة محمود عباس وسليمان فياض، رجلان يتحملان الرجم بالأحجار من المتاجرين والمزايدين، من أجل تغيير الواقع البائس لمواطنيهم. . نحتاج بالطبع إلى تسريع معدل التنمية في الضفة الغربية، كما يحتاج الأمر لتخليص قطاع غزة من براثن الإرهابيين، وعلى إسرائيل المساهمة جدياً في خلاص شعب غزة من ورطته الحالية، فهي التي تركته يسقط مع سبق الإصرار والترصد في يد الإرهاب، حين قررت سحب القوات الإسرائيلية بقرار منفرد، وهي تعلم يقيناً ما سوف يحدث، واعتبرته عقاباً للغزاويين بأياد فلسطينية!!
كانت أسلمة القضية الفلسطينية جريمة في حق الفلسطينيين لا تدانيها جريمة، فلقد تدخل في القضية من لا يكترث بمعناة الفلسطينيين، لكن فقط بديمومة صراع مقدس بين المسلمين واليهود، كما تسببت الأسلمة في تقديم القضية الفلسطينية للعالم على أنها صراع ديني عنصري، وليست قضية شعب يبحث عن وطن ضائع وحقوق مهدرة، ولقد تصور الفلسطينيون أنهم بأسلمة القضية يكسبون مساندين جدداً بحجم العالم الإسلامي، فكان أن حشروا أنفسهم في نفق عنصري مسدود، وجعلوا من القضية مركز جذب للمتطرفين والمتاجرين والأفاقين والمرتزقة، ولم تعد قضية أطفال وعائلات تعيش الحياة معاناة وعذاباً، وإنما قضية من لا قضية حقيقية له.
بداية طريق السلام هو تسليم القضية للفلسطينيين وحدهم، وقطع جميع الأيادي التي تتلاعب بهم وتوظفهم لمصالحها في صراعات القوى بالمنطقة، ولأن الثقافة العامة تلعب دوراً محورياً في هذه القضية على وجه الخصوص، بأكثر مما تساهم به الثقافة عموماً في توجيه الشعوب، لابد من أن يستبدل العرب ثقافة الثأر الماضوية، بثقافة أن تقدير دماء الشهداء يكون بتأسيس مستقبل أفضل، لا يلقى فيه أبناؤهم ذات المصير، وأن استمرار مسلسل إهدار الدماء هو الامتهان والاسترخاص الحقيقي لدماء الشهداء. . نقول للذين لا يملون من ترديد حكايات بلا حصر عن مذابح تاريخية ينسبونها للحركة الصهيونية ولإسرائيل الدولة، أن السلام هو الثمن الذي يليق بدماء الشهداء، فمن البديهي الذي يكاد يغيب عن الجميع الآن أن من يثمن بالفعل دم شهيد فلسطيني أو غيره، لابد وأن يثمن ويحرص أكثر على دماء أبنائه، فلا يدفع بهم في طريق العداء والكراهية الرهيب والمدمر، فالشهيد الحق يموت من أجل أن يحيا أبناؤه، وليس من أجل تقديس الموت وكراهية الحياة، أو من أجل حفر قبر واسع تتخذ منه الأجيال التالية مقراً لها!!
نفس هذا المنطق نهديه لمن يتحدثون عن الأرض والبيوت السليبة، وقد اتضح أن الحل العسكري مستحيل لكلا الطرفين، وأن استرجاع السليب والحفاظ على الموجود الآن لن يتأتى إلا بالحوار الجاد المخلص، وليس بالحوار المظهري الذي يتضمن شروطاً (نسميها ثوابت الأمة) تجعل التظاهر بالموافقة على الحوار أكذوبة سخيفة، ويكون من يقارب القضية هكذا متاجراً ومزايداً، وليس بأي حال مدافع عن قضية وحقوق وشعب!
على جماهيرنا أن تكف عن الإصغاء لمن يسيرون على منهج quot;المهلهل بن أبي ربيعةquot; الذي رفع شعار quot;أريد كليباً حياًquot;، لكي تظل نيران حرب البسوس مشتعلة قرابة أربعة قرون، أو منهج quot;أمل دنقلquot; صاحب قصيدة quot;لا تصالحquot; اللعينة، فمثل هذا النهج من الفكر لا يمت لانتماء أو حرص على عزة أو كرامة، بل هو شهوة مسعورة لديمومة سفك الدماء!!. . فكيف نصدق من يدعي حرصه على دماء أجداد أريقت، ونحن نراه لا يقيم وزناً لدماء الأبناء والأحفاد المهددة بأن تلقى نفس المصير؟!!
في معرض التغيرات الضرورية لتنقية الثقافة من معوقات التقدم نحو السلام علينا أن ندير ظهورنا للتصور التقليدي الشائع للأمر بيننا وبين الإسرائيليين، كما لو كان بين سارق البيت وصاحبه، فحتى لو كان هذا صحيحاً، يقتضي منا الحرص على المستقبل أن نجلس معا،ً لنرى كيف يمكن أن يعيش الجميع، لا أن يقضي طرف على الآخر قضاء مبرماً، بحجة أنه لص بلا حقوق على وجه الإطلاق. . ماضي جميع الشعوب حافل بالمآسي والجرائم، لكن الشعوب الواعية خلفت عداواتها خلف ظهورها، وتقدمت بشجاعة لتؤسس مستقبلاً مختلفاً، ولا نحتاج لتذكير أحد باليابان التي ضربتها أمريكا بقنبلتين ذريتين، وألمانيا التي حاربت الجميع وحاربوها، وهدموا برلين على رؤوس أهلها، والكل الآن لا يتذكر الدماء التي سالت، إلا من منطلق تحاشي أن يتكرر هذا مرة أخرى. . فنحن لا ندعوا لنسيان الماضي وتجاهله، بل أن نعيه جيداً، لا لكي نعيش فيه ونقدم أنفسنا ذبيحة على مذبح معاركه وعدواته، ولكن لنحرص على ألا يتكرر.
أوهمنا زعماء مثل صدام حسين والقذافي والأسد وأحمدي نجاد بحرصهم على الفلسطينيين، وها قد افتضح موقف شعوبهم منهم وموقفهم من شعوبهم، فهل يصح استمرار تصديقهم، أو تصديق من يردد ذات دعاواهم، في ادعائهم الحرص على الشعب الفلسطيني؟!. . كل هؤلاء وغيرهم تاجروا بالعداء العربي الإسرائيلي أو الإسلامي اليهودي، وهم في الحقيقة يفتقدون ذرة إخلاص واحدة لغير أنفسهم وطموحاتهم المريضة. . كفانا سذاجة أيها السادة، ولنتقدم للسلام بخطى واثقة، واضعين مستقبل أولادنا وأحفادنا أمام عيوننا، فالآباء والأجداد الذين حرمهم الصراع من الحياة الكريمة، وشربت أرض الصراع دماءهم، لا يرضيهم أن تلقى الأجيال القادمة ذات المصير وإلى أبد الآبدين!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]