لقد ابتلي الشعب المصري في العقود الأخيرة ببلوتين كلاهما أشد وطأة من الأخرى، أولهما تاريخياً هي الابتلاء بجماعة الإخوان المسلمين، ثم ما تخرج منها من جماعات احترفت الإرهاب الصريح أو المستتر، والثانية هي الحكم العسكري الأوتوقراطي، وما صاحبه وترتب عليه من فساد أصاب كافة مجالات الحياة المصرية. . حين قام الشعب المصري وشبابه ليثور على واقعه المتردي، كان من المفترض أن يثور وبوضوح على البلوتين أو الكارثتين اللتين أنشبتا مخالبهما في عنق وجسد الشعب المصري، لكن ما حدث هو اتخاذ جماعة الإخوان المسلمين موقفاً ابتدائياً سلبياً من الثورة، ثم سارعت فور ظهور بوادر نجاحها في الالتحاق بها عبر رفع شعارات الثورة، متخلية للمرة الأولى عن شعاراتها الدينية، ولم يكن هذا جديداً أو غريباً على أناس اشتهروا بقدرة على التلون تحسدهم عليها الحرباء. . المهم في الأمر أنهم سواء شاركوا في الثورة أم لم يشاركوا، فإنهم الآن في مقدمة المرشحين لأن تسقط ثمار الثورة بين أيديهم، رغم أن روح الثورة المصرية وشعاراتها هي المضاد لكل ما يمثله معاً جناحي طائر الهيمنة الملعون، الذي اختطف أفراخ الحضارة المصرية، ليلقي بها في أوكار العقارب والثعابين.
ورغم أن كاتب هذه السطور لا يرى أمر اختطاف المتأسلمين للثورة يمكن أن يتم بسهولة، إذ يرصد كراهية الشارع المصري وتخوفه من هؤلاء الذين يلوحون له بشعارات التقوى الدينية، ويدرك العامة كما الخاصة أنهم أبعد ما يكونون عن الإخلاص لقضية الوطن ومواطنيه، إلا أن الأمر لا يخلو من احتمال وارد جدير بالاعتبار، أن يتمكن تجار الدين بصياحهم وتهديداتهم، التي يمتزج فيها الخطاب الديني بالبلطجة والعنف، علاوة على لعبهم على وتر النعرات الدينية، التي تكفل احتشاد البسطاء خلف خنادقهم ومتاريسهم الدينية، ويتمكنون من السيطرة على المجلس التشريعي القادم، ومن ثم التوجه بالبلاد في طريق الهلاك والتدمير لما لم يخرب بعد من حضارة شعب عريق، وهذا واضح بالطبع في تصريحات قادتهم، التي استغنت الآن عن منهج التقية، حتى صرنا نسمع من الخارجين منهم من السجون، ليس فقط نيتهم السيطرة علينا، بل والتسيد على العالم أجمع، وإن كانوا لم يتفضلوا بتوضيح مقومات هذه السيادة المأمولة على العالم، وإن كانت شيئاً غير التسيد بالجهالة والإرهاب!!
لو كانت الساحة المصرية بالفعل مؤهلة لمثل هذا السقوط، وبالتحديد نتيجة لتغلغل الفكر الديني المنغلق في المجتمع المصري طوال مرحلة التدهور الحضاري الذي اقترن بحكم العسكر لمصر، فإنه يلزم هنا أن نتفق مع أصحاب هذه الرؤية، في أن ثورة 25 يناير قد وضعتنا أخيراً وجهاً لوجه مع ما تحاشيناه طويلاً، أو بالأصح ما كنا ندرك وفق تلك الرؤية (إن صحت) حتميته، لكن أنانيتنا كانت تدفعنا دوماً للهرب منه، تخوفاً من قيامنا بدفع الثمن الباهظ، الذي قد يستغرق البقية المتبقية من العمر لجيلنا. . فالضغط والتجميد للتفاعلات الاجتماعية الذي مارسه نظام مبارك، لم يؤد إلى تحجيم تيارات الإسلام السياسي، بل بالعكس خدمها حين أجبرها على العمل تحت السطح، لتنجو ولو جزئياً من حالة الكبت أو القهر المفروضة على سائر التيارات الليبرالية والعلمانية، وتنتشر بين الجماهير بوصفها المضاد لما يشهدونه من فساد وطغيان للنظام، كما زاد من قوة قبضة قادة الكنيسة على أعناق الأقباط، وأعلى من شأنهم بصفتهم الملجأ المقدس من تعسف وجور حكم ظالم وأغلبية تبدو معادية، دون أن يستطيع البسطاء إدارك قدر الطغيان والفساد المتضمن هيكلياً في خطاب ينتحل النيابة عن الإله، فيحكمنا باسمه، وينهب ويفسد كما شاء باسمه، كما يجلدنا ويذبحنا ويقطع أطرافنا أيضاً باسمه!!. . ليكون الحل الذي لا حل سواه والأمر هكذا هو حتمية مواجهة المصير، ليتم حسم الأمر مرة وإلى الأبد.
فالشعوب المغرمة بالماضي، والمتشبعة بالعنصرية المتعصبة والكارهة للآخر، سواء تلك التي تنفث كراهيتها وتعصبها قتلاً وتخريباً، أو تلك التي تنكفئ على ذاتها، متصورة لنفسها صفات الملائكة، لمجرد كونها أقلية مقهورة.. مثل هذه الشعوب لا وسيلة لخروجها من نفقها المظلم، إلا بأن تمضي في مشوارها الماضوي إلى نهايته. . أن لا تترك نزعة من نزعات التخلف إلا وتلتحف بها. . فتتداوى ببول البعير والطب النبوي ما شاءت، وتجري خلف ما تخترعه من قصص عن معجزات وظهورات نورانية وزيوت تسيل من الأيقونات المشبوحة على الجدران، تعوض بها فشلها وعجزها عن الثقة بالعلم والحياة بموجب مناهجه. . ليتاح لتلك الشعوب تحقيق كامل إرادتها المقدسة، وترقب خلال ذلك بلادها وحياتها، وهي تتحول إلى مستنقع للمياه الآسنة والبغضاء والدماء، حتى لا يبقى فيها موضع لقدم، ولا نسمة هواء نقية غير محملة بأشد الفيروسات فتكاً، وهو التعلق بأهداب الماضي وقصصه ومعاركه وأحقاده، والوقوع في أسر ذوي اللحى والعمائم باختلاف ألوانها، الذين يفتون ويتحدثون باسم الإله، ويدفعوننا للتباغض والتقاتل باسم الإله، ويغيبون ويحجرون على عقولنا أيضاً باسم الإله.
لا يشمل حديثنا بالطبع العبادات والعقائد الإيمانية، التي هي علاقة خاصة بين الفرد وربه، ولا شأن لأحد بها، ولا مسئولية إلا عليه شخصياً تجاهها. . نحن نتحدث عن ترتيب أمور حياتنا الأرضية، وعلاقات البشر فيما بينهم وبعضهم البعض.
يقول أصحاب هذه الرؤية للمصير الذي ينتظرنا الآن أو بعد حين، أنه بعد أن نصل إلى قاع الهاوية التي اخترنا بكامل إرادتنا وإصرارنا الانقلاب فيها، سوف نبدأ في البحث عن مناهج وطرق آخرى، مضادة تماماً لتلك التي سبق وأن استهوتنا. . فنشرع في إعمال عقولنا التي كنا قد أغلقنا عليها في جب النسيان، باعتبارها فريسة ينفث فيها الشيطان دسائسه لنا، واكتفينا بعقول أصحاب الفضيلة والقداسة. . بعدها سيكون علينا أن نبني ما تهدم من أنفسنا وثقافتنا أولاً، ومن مقومات حياتنا المادية ثانياً، متذكرين بخزي تلك الأجيال التي أفنت عمرها من أجل قضايا هي الخسارة ذاتها.
هكذا سنكون كمن يسير في النفق المظلم إلى نهايته، لو اسفرت ثورة الشباب المطالب بالحرية والعدالة عن الوقوع في يد من يحكموننا على أساس تشريعات دينية، تعود إلى عصور خلت، لتكون هي مرجعيتنا، ومفهوم مرجعية هنا لابد وأن يعني أن مقياس نجاح أو فشل الدولة والأفراد، يكون بمدى تحقيقهم للتطابق بين ما يجري على أرض الواقع، وبين المرجعية ممثلة في النصوص المقدسة التي يتمسكون بها. . يعني هذا بالتبعية أن مصالح الناس وأحوالهم المعيشية لن تكون هي الهدف الوحيد أو الأساسي، وإنما الهدف المقدس هو الانقياد الأعمى لأصحاب الفضيلة والقداسة، والانصياع لما يندلق من أفواههم المقدسة من قوانين إلهية. . نتوقع هكذا أنه عندما تسوء أحوال الدنيا، ويتفاقم بؤس الناس، نتيجة التمسك بالقواعد والقوانين التي لم تعد صالحة للعصر ولا لنوعية العلاقات بين الناس في مختلف مجالات الحياة، نجد هناك من يتكرم علينا بمهرب من ورطتنا هذه، بأن يحاول تأويل النصوص القديمة، لكي ليستخرج منها مفاهيم جديدة، مماثلة ولو جزئياً لتلك التي يتحتم علينا اتباعها، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو حل تلفيقي أعجز من أن ينتشلنا من ورطتنا التي اخترناها، فما أشبه هذا بمن يذهب في رحلة طويلة، وقدماه مربوطتان في أحجار ثقيلة، مرتدياً لحلة من الأشواك، تعلق بكل ما تقابله خلال الطريق، فينفق الوقت لتخليص قدميه وجسده، وهو مسكون بهواجس أن يكون تحرير قدميه هذا هو عصيان للإله!!
إذا أثبتت مجريات الأحداث في الساحة المصرية في الشهور القليلة القادمة أن الشعب المصري بأغلبيته قد انحاز لمن يهددونه باسم الإله ببئس المصير في الآخرة إن لم ينقد لهم خانعاً، أو وصل إلى درجة توهم أن أمثال هؤلاء يمكن أن يأتي من ورائهم في الدنيا غير المصائب والكوارث، بداية من الاقتتال الداخلي بين أتباع المذاهب المختلفة في الدين الواحد، مروراً بقتال وكراهية أتباع أصحاب الديانات الأخرى، وانتهاء بالعداء المستحكم مع سائر شعوب الأرض ومع الحضارة الإنسانية ذاتها، ناهيك عن الفشل الحتمي والذريع في التعامل مع كافة القضايا الحيوية لحياة الناس. . إذا كان هذا هو الخيار الذي توصل إليه المصريون، أو فرضته فئة قليلة منهم على أغلبية عديمة الحول والقوة، فإن الطريق الوحيد للحداثة والحرية يبدأ أيضاً من ذات النقطة، بل وبالسير في ذات الاتجاه، بازدياد الظلمة حلكة، وازدياد ضغط القيود على الأعناق إلى حد الاختناق. . ففي نهاية هذا الطريق وغياهب وهدته، لن نجد غير حل واحد إن شئنا الاستمرار أحياء على سطح كوكب الأرض، وهو أن نقوم بحركة quot;للخلف درquot;، ثم quot;للأمام سرquot;، والأمام هنا هو طريق العلم الذي كنا قد كرهناه، والحرية التي كنا قد تصورنا أنها حرية الانطراح تحت أقدام الجهلاء من ذوي العمائم واللحى.
لا أقول أن هذا سوف يحدث في مصر الثورة، فمازلت موقناً أن الانتصار سيكون للشعب وللحياة والحضارة، لكن مع هذا لا نملك تجاهل هذا السيناريو الأسود أعلاه، ولو على سبيل الحذر من هاوية على بعد خطوات منا!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات