لاشك لدينا أنه رغم أهمية العوامل المادية في توجيه سلوك الإنسان وأفكاره، إلا أننا ينبغي أن ندرك أن ورطة الكراهية والتعصب والإرهاب التي ترزح فيها شعوب منطقة الشرق الكبير، وتهدد بها الحضارة الإنسانية عامة، يلعب فيها العامل الفكري أو الثقافي العقائدي دوراً محورياً، ويوجه إنسان المنطقة في اتجاه مضاد لما تمليه عليه مصالحه المادية.. نقول عن منطقة الشرق الكبير وما يحدث فيها الآن بوجه خاص، ونقولها عامة حيث يتواجد البشر، أن الإنسان لا يتلامس مع الواقع المادي تلامساً مباشراً، وإنما يتعرف عليه وفق منظومة من أفكاره المسبقة، يستعين بها على تفسير أو فهم ذلك الواقع، ثم تصنيفه مختلف التصنيفات التي درج الإنسان عليها، مثل خير وشر، أو طاهر ونجس، أو حرام وحلال... إلخ.. هو إذن لا يتعرف على مفردات الكون بذاتها واحدة فواحدة، وإنما يقوم بعملية حشرها داخل قوالب فكرية جاهزة لديه، تسهل له فهمها والتعامل معها.. وأبسط مثال يوضح ما نقول، نجده في اختلاف رؤية إنسان الشرق لحيوانات مثل الكلب والخنزير، عن رؤية الإنسان الغربي لهما، فرغم أنهما محض كائنات حية، إلا أن الرؤية والتعامل معهما في الشرق، يتوقف على الفكر السائد والمفارق لطبيعة هذين الكيانين المادية، والذي يضعهما في مكانة دونية مشيطنة، فيما الفكر الغربي أيضاً ينظر لهما نظرة تضفي عليهما وعلى سائر الحيوانات صبغة إنسانية، يترتب عليها احتفاء ورعاية، نتعجب نحن أهل الشرق لها، وربما يعتبرها بعضنا من قبيل الخبل!!
نتصور أن البدايات الأولى للفكر الإنساني، والتي اتخذت مسمى أخلاق أو تدين، كان الغرض منها عملي محض، وهو إرساء ثقافة تثمر علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية، تعطي المجتمعات الإنسانية قواماً منتظماً ومتماسكاً وقادراً على الاستمرار، وتوفر حماية جميع المنضوين تحت لوائه، حتى لو تم ذلك وفق قيم وقواعد نراها الآن أبعد ما تكون عن مفاهيمنا المعاصرة للعدالة.. كان لابد أن تأخذ حزمة القيم والمفاهيم والوصايا هذه طابعاً مقدساً، لكي تكفل لنفسها لدى العامة من الناس القبول والالتزام ثم الديمومة.. فصار التبشير بها مقترناً بنسبتها إلى أساس مقدس، قد يكون الآباء والأجداد العظام، أو يكون إلهاً حجرياً أو خشبياً يقطن هذا المعبد أو ذاك، قبل أن يتجه البشر بقلوبهم شطر إله متعال في السماء.. وطوال تلك القرون الطويلة من مسيرة البشرية، تجاهل أغلب الدعاة والمبشرين بحزمة القيم الضرورية هذه، ذكر السبب والمبرر الحقيقي والخطير لها، وهو تحقيق الصالح العام، وتوفير الاتساق والانتظام والاستقرار للكيانات البشرية!!
الأساس إذن كان تحقيق المصلحة للإنسان، وكان المقدس وسيلة لحض الناس على التمسك بالعلاقات التي تحققها، حتى لو بدت للفرد العادي قصير النظر أنها مضادة لميوله ورغباته أو مصلحته الآنية الأنانية، لكن السحر مالبث أن انقلب على الساحر الذي هو الإنسان، فقد وجد نفسه ينساق في تيار يدفع به ليكون ألعوبة في يد من تصدروا مسيرته، بداية بدعوى تحقيق مصالحه، لينقلبوا وقد استمرأوا دعاوى القداسة، ليصيروا رقباء وقضاة على الناس، لحساب المقدس الذي صاروا يعملون لحسابه ويتحدثون باسمه، فصاروا هم أيضاً مقدسين بالتبعية.. فالعزوف عن تكتيك الشرح والتوضيح للفائدة العملية المحضة لمجموعة القيم، لحث الناس عن اعتناقها والتمسك بها، مقروناً باستخدام تكتيك ربما كان من الناحية العملية أجدى في مخاطبة العامة من أي تكتيك آخر، ذلك هو أسلوب الترهيب والترغيب..الترهيب من غضب ولعنة أصحاب هذه القيم ومصدرها، الذين هم الأجداد أو الآلهة، والترغيب في بركاتهم وعطاياهم، سواء في هذه الحياة الدنيا، أو في حياة قادمة بعد الموت، تلك الحياة التي كان الوعد بنعيمها ضرورياً، لتلافي ما يستشعره الإنسان من عدم تحقق وعود العدالة والثواب على الأرض.. فهذا الترحيل للوعود إلى الحياة الأخرى يكفل إعطاء مصداقية لخطاب فاقد للمصداقية على أرض الواقع، علاوة على أنه يعطي عوام الناس أملاً، يعينهم على تحمل ما يرزحون فيه، فالأمل وإن كان كاذباً أفضل من حقيقة مُرَّة ومرعبة، هي العبث والعشوائية الغالبة على الكون الذي نعيش فيه، والمكون من شذرات الانتظام فيها هو الاستثناء.
هكذا توارت المصلحة العامة المبتغى تحقيقها إلى ما خلف كواليس المسرح، ليتصدر المشهد مصدر الأوامر والنواهي بصفته المقدسة، وصارت الطاعة بمعنى القبول والتسليم التام بلا فحص أو مراجعة، هي القيمة العليا إرضاء للمقدس وتجنباً لغضبه، لتبدو الوصايا والقيم مقدسة في حد ذاتها، بصفتها صادرة عن رغبة مقدسة في أن تسير الأمور على هذا النحو بالذات وبالتحديد، أي تصير هي مرجعية ثنائية الحرام والحلال، بدلاً من مرجعية أحوال البشر، التي تحدد ثنائية الصواب والخطأ.. هكذا يكون المتذمر أو المعترض على القيم الثابتة المقدسة خارجاً عن المنظومة كلها، كما يكون مطلوباً من الأتقياء تقبل كل ما يؤمرون به، وكل ما ينزل بهم من نوازل، تقبل الصاغرين الراضين بالقضاء المقدس وقدره، كما وصل ببعضهم الأمر إلى تصور أنهم جند المقدس في أرضه، فيقدمون حيواتهم وحيوات الآخرين ذبيحة ترضي المشيئة المقدسة، وتحقق إرادتها المتسامية والمفارقة لكل ما على الأرض من شئون ومصالح بشرية.
هذا التصور بتمامه وكماله لم يسيطر على الجميع بالتأكيد، بل في كل عصر تدرجت درجة التشبع به من مجتمع إلى آخر، ومن فرد إلى فرد، لكن الديمومة والسيادة لهذا الفكر تحققت بالزواج بينه وبين القادة السياسيين، الذين وجدوا فيه خير أداة لهم لسوق الجماهير كالنعاج إلى حيث يشاؤون الذهاب بهم.. كان من الطبيعي أيضاً على ضوء هذا التحالف بين السياسي والمقدس، أن يتم استيلاد مقدسات جديدة، مثل مقدس الوطن، لتتحول الأوطان من حيز للبشر يحقق لهم الاستقرار، إلى صنم مقدس يحتاج لقرابين بشرية للمحافظة عليه، فصرنا نسمع هتافات على مثال quot;نموت وحيا الوطنquot;، لتوضح بجلاء الوضع المقلوب، والذي صارت فيه الغاية وسيلة والوسيلة غاية.. هنا لا يتوقف أحد ليتساءل عن فائدة الوطن إذا كنا quot;نحنquot; سنموت، أو أننا quot;نحنquot; من ينبغي أن نحيا، وما الوطن إلا مجرد وسيلة نحقق من خلالها ما نصبو إليه من حياة مستقرة وكريمة.. من الواضح هنا أيضاً أنه كما صار رجال المقدس هم المقدس ذاته، فقد صار رجال الحكم أيضاً هم الوطن ذاته، وصرنا نهتف لهم quot;بالروح بالدم نفديك يا زعيمquot;، ولم يعد هذا quot;الزعيمquot; مجرد موظف لدينا، مكلف بتحقيق مصالحنا!!
هكذا لا يعدو من نسميهم متطرفين أو إرهابيين أن يكونوا غير أنهم قد ذهبوا وفق المنظومة الفكرية الإنسانية السائدة إلى المدى الأبعد.. هم أبناء ثقافتنا البررة، وربما يصح وصفهم بالأطهار الأنقياء، وقد أخلصوا إخلاصاً تاماً لا شائبة فيه لفكر القداسة، الذي أخذ موقع فكر المصلحة الإنسانية، فيما تراجعت في خطابنا قيمة المصلحة، لتأخذ ظلالاً سلبية مستهجنة، بحيث درجنا على وصف أي علاقة نستهجنها بأنها quot;علاقة مصلحةquot;!!.. حدث العكس في أوروبا بداية من القرنين السابع عشر والثامن عشر، وحملت الثورة الفرنسية لواء الإنسان والإنسانية، لتنتشل الإنسان من تحت أقدام القداسة ونوابها البشر المقدسون، لتضعه حيث كان على رأس المنظومة، فيصير هو الهدف الأسمى، أي يصير هو ومصالحه المقدس الحقيقي، ويتم إعادة قراءة وفهم التراث المقدس على هذا الأساس الجديد القديم في آن، وهو توجيه الإنسان لما فيه صالح الإنسان.. هكذا يتم فهم الإرادة العلوية للمقدس باعتبارها إرادة تحقيق الخير للإنسان، تماماً كما كان الأمر في البدايات الأولى، وليست أوامر صماء لقوة جبارة مفارقة، تبغي فرض إرادتها على أشلاء الإنسان وعلى سطح بحيرة من دمائه المسفوحة!!
إذا كان هذا quot;الانقلابquot;، أو بالأصح quot;الاعتدالquot; للفكر الإنساني قد حدث في أوروبا والعالم الغربي بداية من القرن السابع عشر على أقصى تقدير، وإن كان قد بدأت تباشيره الأولى قبل ذلك بعدة قرون بداية من عصر النهضة Renaissance ، فإن لنا أن نقدر أن إنسان منطقة الشرق الكبير يتخلف عن العصر الراهن بأربعة قرون على الأقل.. يكون علينا أولاً أن نتساءل، إن كنا نسير بمقياس تحرر الإنسان إلى الأمام أم للخلف، ثم نتساءل إن كان أمامنا أربعة قرون لنصل إلى ما حققه الإنسان المعاصر من حقوق وكرامة في كل مكان خلا شرقنا العتيد، أم أن هناك عوامل داخلية وعالمية ستدفع بخطونا، لنعبر الهوة في زمن أقل من هذا بقليل أو كثير!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]