ها نحن جميعاً ننتظر انفصال جنوب السودان عن شماله، كأمر واقع لا يجرؤ أحد على مقاومته، بما فيهم الرئيس السوداني عمر البشير، الذي أضافت المحكمة الجنائية الدولية أخيراً تهمة الإبادة الجماعية لقائمة جرائم سيادته. . فمن الواضح أن المجتمع الدولي والقوى العظمى قد اختارت منهج المهادنة مع النظام السوداني ورئيسه، أملاً في تمرير استفتاء تقرير المصير للجنوب السوداني، بعد أن أنهى اتفاق نيفاشا الذي وقع في يناير 2005 نحو 21 عاماً من الحرب الأهلية في جنوب السودان، أسفرت عن سقوط نحو مليوني قتيل وتشريد 4 ملايين. . وقد نص الاتفاق على مرحلة انتقالية مدتها 6 سنوات يتم بعدها تحديد مصير الجنوب بالوحدة أو الانفصال عن الشمال. . إذ تشير جميع المؤشرات على أرض الواقع أن الانفصال التاريخي بين شمال السودان وجنوبه، والمأمول الآن أن يتم سلمياً، قدر فُرض على السودان منذ إمساك جبهة الإنقاذ بين براثنها بهذا البلد الممزق من الأساس. . قد يكون هذا المنهج بالفعل مناسباً لتحقيق هدفاً محدوداً قصير المدى، وهو إقرار قيادة الخرطوم بانفصال الجنوب، وعدم محاولة سحقه وإعادته عنوة إلى وحدة سودانية لم تكن يوماً متحققة على أرض الواقع. . ليبدأ البشير البطل العروبي المتأسلم كما سمعنا ورأينا، في مخاطبة غوغاء العالم العربي والإسلامي، بإطلاق وعوده الميمونة بأن يكون الشمال السوداني بعد الانفصال بلداً إسلامياً صرفاً، فيالها من بشرى، وياله من مصير لشعب الشمال السوداني الغارق في الفقر والتخلف!!
رغم أننا لسنا ممن يصرون على خيار الوحدة رغبة فيه لذاته، إلا بقدر توافر عناصره الإيجابية على أرض الواقع، كما أننا لا نحبذ الانفصال أو الاستقلال أيضاً لذاته، إلا بقدر ضرورته العملية لتوفير حياة أفضل لشطري الكيان المعرض للانفصال، إلا أننا لابد وأن نسجل أن نظام عمر البشير قد فشل متعمداً في جعل الوحدة خياراً جاذباً لأهل الجنوب، وليس أمام العالم الآن إلا أن يأمل في الوصول إلى انفصال سلمي وحضاري، يكفل بداية جديدة لحسن جوار بناء لكلا الشعبين. . مع الأخذ في الاعتبار أن الحركة الشعبية لتحرير السودان لم تكن تاريخياً بقيادة جون جارانج حركة انفصالية، بل كان هدفها سودان واحد علماني، في مواجهة حكومة الإنقاذ الإسلامية، التي افتضح منذ البداية خيارها الأثير، وهو التخلي عن وحدة السودان، من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية على الجزء الواقع بين براثنها، ولا عجب في ذلك رغم شذوذه، فهؤلاء الإسلاميين لا يحترمون وطناً ولا بشراً، فهم رعاة لأنفسهم ومصالحهم، انطلاقاً من فكر يصور لهم أنهم جند الله على الأرض، وهم إن كانوا فعلاً كذلك، فإن هذا ولا شك يعطيهم الحق أن يفعلوا في خلق الله وفي أرضه ما يشاءون، حتى لو نشروا الخراب وسفكوا الدماء، كما تفعل تنظيماتهم الإرهابية في كل مكان على سطح البسيطة. . ورغم انشقاق الترابي منظر التأسلم السياسي عن حزب المؤتمر الحاكم، إلا أن البشير الديكتاتور الفاشي الغير معني في الحقيقة بدين أو ضمير إنساني، سار على ذات النهج، وقد ارتأى أن اللعب بورقة التأسلم سيكون مربحاً له، ومعيناً على إحكام قبضته على رقاب الشعب السوداني، فلم يحاول طوال الفترة الانتقالية أن يعيد ترتيب الشمال، بشكل يجعله جاذباً لأهل الجنوب، بل طارداً لأهل الشمال ذاتهم، فتفاقمت مواقفه الفاشية من الفور المسلمين السنة في غرب البلاد، لمجرد أنهم ينتمون لأصول أفريقية، وليس لعروبته المجيدة شريفة المحتد!!
يبدو الجزء الأول من هذا الهدف المرحلي متيسراً وفي متناول اليد، على ضوء النفوذ الدولي الحاضر بالفعل على أرض السودان، كما هو موجود بالإمكان، عبر التهديد بالمزيد من التدخل المباشر والفوري، ونعني به الانفصال السلمي، فالبشير الآن عاجز عسكرياً عن القتال حتى لو أراده. . لكن ماذا بعد احتفاليات أو بكائيات الانفصال المتوقعة، هل سيكون التعايش بين الجارين بسهولة التوقيع على اتفاقيات استقلال في قاعات مكيفة ذات موائد مستديرة؟!
هناك الصعوبات العملية للانفصال، ليس فقط في أبيي، لكن أيضاً ما يخص جبال النوبة وولاية النيل الأزرق اللتان تشكلان مناطق تماس بين الشمال والجنوب، كذا وضع القبائل الموجودة بالمنطقة، والتي لا تعترف وفق طبيعتها وثقافتها ومصالحها المباشرة بما نرسمه نحن من حدود وهمية على الخرائط، كما لا تعترف بما يتوصل إليه أصحاب الياقات البيضاء من صداقات أو عداوات، والسبب في ذلك بسيط، وهو أن مصالح تلك القبائل العملية والحياتية تتجاوز وتعبر هذه التقسيمات أو المواقف السياسية، فهذه البلاد بشعوبها لم تصل بعد للمستوى الحضاري الذي يؤهلها لأن تنضوي ضمن دولة حديثة، وقطاعات كبيرة منها تعيش مرحلة الالتقاط والصيد البدائيتين. . يضاف إلى ذلك التعاون الضروري بين الشمال والجنوب، لتأمين احتياجات الشعبين أو النظامين، والتي بدونها سوف يفتقد الشمال إلى الكثير، لكن الجنوب ربما لن يستطيع العيش بدون تعاون وثيق وإيجابي مع الشمال، وأمامنا أوضح مثال على ضرورة التعاون، متمثلاً في وجود الجنوب محاصراً بالكيانات الأخرى، ومحروماً من منفذ بحري، فيما جاره أثيوبيا يعاني أيضاً من افتقاده لمنفذ بحري بعد استقلال أريتريا.
اذا كان ضعف البشير ونظامه عاملاً إيجابياً لتأمين احترامه لحق تقير المصير للجنوب، فهل يمكن أن يكون ذلك النظام بتكوينه قادراً على إقامة علاقات جوار بناءة مع جيرانه الجدد؟. . أم الصحيح أن العالم الحر يهرب الآن إلى الأمام، لتأجيل مواجهة هو غير راغب فيها أو قادر على دفع ثمنها، مع نظام يخلق المشاكل والمآسي خلقاً؟!
نظام الخرطوم بقيادته الديكتاتورية الفاشية، وبأيديولوجيته الإسلامية التي يصر عليها حتى الموت، هو بمثابة آلية لصناعة المشاكل للشعب السوداني. . ليس فقط لجنوبه وغربه في دارفور، بل لكل بقعة يتواجد فيها الإنسان السوداني وتمتد إليها سيطرته. . هو بالفعل نظام يتفوق في بشاعته على نظام صدام حسين البعثي في العراق، فعلى الأقل كان صدام حسين ببطشه ومقدرته العسكرية قادراً على توفير قدر من الاستقرار للعراق، ما يجعل البعض الآن يترحم على أيامه، لكن وريث فاشيته عمر البشير فاشل حتى في بطشه، بحيث تحولت حياة السودان كله إلى كتلة من المشاكل تتفجر متتالية أو متزامنه، ليقبع هو في منتصف تلك الدائرة الجهنمية، يبث سمومه ومتفجراته في سائر شرايين الجسد السوداني المهلهل.
هو تكتيك اختاره المجتمع الدولي للتعامل مع هذه الحالة المتفردة في بشاعتها، أن يتعامل مع القضايا الجزئية، فيذهب إلى فك الاشتباك في الجنوب، ثم يتجه لدارفور لإنقاذ أهلها من الإبادة الجماعية، ونحن لا نملك أن نرفض هذا التكتيك رفضاً قاطعاً، فنظرياً يمكن مقاربة مشكلة معقدة مركبة بتفكيكها، والتعامل مع كل جزء منها على انفراد، وهي نظرية لها ذات قدر معقولية نظرية مقابلة، تقول بالبحث عن مركز الإشكالية والتعامل المباشر معه، ما يترتب عليه حل تلقائي لسائر المشاكل. . نجد هذه الحالة أيضاً فيما تمارسه إيران من إفساد في المنطقة، بمد أذرعها في لبنان وغزة وربما في اليمن والبحرين، حيث يمكن بضرب المركز الإيراني اختفاء بؤر التوتر في هذه البلاد تلقائياً. . الاختيار بين المقاربتين البديلتين لا يكون بالطبع عشوائياً، وإنما يتوقف على توافر المقومات العملية لكل منهما، ومدى الصعوبة أو التكلفة التي سيتم دفعها نتيجة تبني كل خيار.
في حالتنا السودانية هذه يكون الذهاب إلى خيار معالجة لب القضية أو مركز إثارة الاضطراب والمشاكل، يعني ذهابنا إلى حل مماثل لما حدث للعراق، لتخليصها من براثن البعث الصدامي، وهو حل فوق أنه باهظ التكلفة على جميع الأطراف، فقد أثبت فشله عملياً في وفق أكثر من مقياس. . لكن اللهاث خلف حلول للمشاكل الجزئية في الجنوب وفي دارفور حالياً، لا ينبغي أن ينسينا أن مركز الإشكاليات، أو ماكينة صناعة المشاكل مازالت تعمل حتى ولو بنصف قدرتها، وأن هذا يعني أن ذلك النظام يبدد فرص الشعب السوداني بمختلف مكوناته في حياة تليق بالبشر. . أيضاً نكون بالاستمرار في المعالجة الجزئية لما يختلقه نظام البشير من أزمات، كمن يرحل المشاكل أو يدفع بها أمامه، أو يستبدل المشكلة بأخرى، حتى لو كانت أخف منها وطأة، كما لو كنا ندور في دائرة جهنمية مغلقة، لا بد وأن يقدم المهتمون بالأمر يوماً على كسرها، والتوجه مباشرة للقلب الفاسد لاستئصاله.
هكذا نكون بآمالنا في انفصال سلمي بين جنوب السودان وشماله، إنما نأمل في حل لإشكالية، يترتب عليه إشكاليات جديدة أكثر استعصاء، فياله من أمل، وياله من عام جديد من السذاجة توقع أن يكون أفضل على البشرية مما سبقه!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]