لا نستطيع أن نتهم شعبنا المصري وحكامه بالغفلة، فالأوطان المسماة عربية من حولنا تتمزق وبعضها يحترق، وهذا وحده كفيل بأن ينتبه الجميع كي لا نلحق بجيراننا في الأرض اليباب، أو تتأجج النيران المتطايرة شظاياها بالفعل في وادي النيل، لتحرق الأخضر واليابس، وتحيل حقول مصر التي كانت خضراء إلى صفرة الموات.. الكل يعرف ويشاهد فصول المأساة التي تجري بطول مصر وعرضها، والكل أيضاً يتلاعب ويعبث ويلهو ويرتزق، وليس بيد مثلي إلا أن يدق بكل ما يستطيع من قوة نواقيس الخطر.
ما نطلق عليه الآن الاحتقان الطائفي في مصر، يرجع في جزء منه إلى تاريخ موغل في العمق حتى القرن السابع الميلادي، لكن الجزء الأكثر خطورة مستجد أو طارئ، ترجع بداياته إلى تشكيل جماعة الإخوان المسلمين منذ ثلاثة أرباع قرن، ليتعملق تيار الإسلام السياسي وتتفاقم ممارساته الوبيلة على أرض الواقع خلال الأربعة عقود الماضية.. ذلك بالتزامن مع تفشي الفكر العروبي الفاشي وثقافته المعادية للآخر، تحت رايات القومية العربية ومناهضة الاستعمار والصهيونية.. ورغم أن أيديولوجية العروبة تحتوي المسيحيين ضمن تعريفها، بل كان منهم رواد بادروا بطرح فكرتها ضمن حركة القوميين العرب، هروباً من دعاوى الخلافة الإسلامية، التي تجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية في أحسن الأحوال، ودخلاء غير مرحب بهم ومستهدفون في دينهم في أسوأها، إلا أن سيادة ثقافة معادية للآخر كفيلة إذا ما استفحلت بأن تدفع أمامها كل حدود أو تعريفات تحددها لنفسها في البداية، لتتسع دائرة الآخر لتشمل كل آخر، وهذا ما شاهدناه مثلاً في حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تحولت مراكزه الإقليمية إلى أخوة أعداء يتقاتلون ويتآمرون على بعضهم البعض، بضراوة لم نشهد لهم مثيلها مع أعدائهم المفترضين.
يشترك كل من فكر الإسلام السياسي وفكر القومية العربية الذي ساد في النصف قرن الماضي، في أنهما يقومان على رؤية الذات من خلال ما تختلف به عن الآخر، مع عماء تام أو تجاهل للطبيعي المشترك بين البشر، وينزع كلاهما إلى تضخيم الخلاف والاختلاف، ليحتل كل مساحة الرؤية والخطاب العام، إلى الدرجة التي نستطيع فيها ولو بقدر يسير من المبالغة، أن نقول أن إنسان هذه المنطقة قد تحول بفضل هذين الخطابين إلى كائن عدائي، يصل عداؤه بعض الأحيان إلى حد أن يعادي نفسه.. أليس هذا ما تطالعنا به يومياً أخبار الاستشهاديين أصحاب الأحزمة ناسفة، التي تحولهم إلى أشلاء مع من يستهدفونهم، بحيث يمكن أن نذهب إلى أن ما يحدث في العراق الآن من تفجيرات تستهدف الأبرياء، لا ترجع لمواقف سياسية أو طائفية، بقدر ما هي من قبيل العنف للعنف؟
لا ينبغي لنا أن نتوقع إلا أن تشمل هذه الحالة النفسية والثقافية العامة الجميع، وليس فقط أصحاب فكر أو دين محدد، فنهج البحث عن الاختلاف وتعظيمه صار ثقافة ورؤية للحياة تطبع بها الجميع.. ينسحب هذا على ما نراه الآن من دعاوى وصيحات بعض النخب القبطية، وهم يحاولون الوقوف على أقدامهم مستندين لما يتيحه عالم الألفية الثالثة من إعلاء لشأن قضايا حقوق الإنسان، وما يوفره لها من حماية ورعاية.. فنراهم يعظمون من عناصر الخلاف بينهم وبين مواطنيهم المسلمين بالمبالغة كماً وكيفاً، ويتجاوزون ذلك إلى خلافات مدعاة، تدخل من وجهة نظر أمينة وموضوعية في تصنيف الادعاء الباطل أو الكذب إلى حد التنطع.. مثل هذا التصعيد غير المنطقي ولا الموضوعي، لا يهدد بضياع الحق تحت أقدام الباطل فقط، وإنما أيضاً يهدد وحدة الوطن وسلامه الاجتماعي، الأمر الذي يتحتم على كل صاحب ضمير أن يواجهه بكل قوة.
قبل أن نستعرض معالم الباطل الذي يقع في شراكه بعض الأقباط من المتشبعين بالفاشية السائدة بالمنطقة، وهم يسعون من أجل قضية عادلة ولا شك، لابد في البداية أن نعدد بعضاً من أركان تلك القضية العادلة، والجديرة بنقاش وطني ومجتمعي، قبل أن نتوجه بالمطالبات أو نشير بالإدانة إلى الدولة المصرية المفترض وطنيتها وعلمانيتها:
bull;المادة الثانية من الدستور والتي تنص على دين للدولة لا تستقيم مع ما تنص عليه المادة الأولى، من أنها دولة تقوم على المواطنة، فالدين للأفراد يؤمنون به، ويحاسبون في الحياة الآخرة على إيمانهم، ويثابون على ذلك بالجنة أو بالنار، أما الشخصيات الاعتبارية كالدولة فهي عبارة عن أجهزة إدارية، تؤدي عملها وفق القوانين والنظم المحددة لها، ويحاسبها أبناء الوطن على كفاءة الأداء في هذه الحياة الدنيا وليس في الآخرة، مما يعني أن المادة بوضعها الحالي لا تعبر عن دولة حديثة، فوق أنها خاوية من المضمون القابل للفهم والتحديد العلمي، بالإضافة إلى تتناقضها مع مواد دستورية أخرى، تنص أن جميع المواطنين سواسية أمام القانون، دون تفرقة على أساس الدين أو الجنس أو خلافه.
bull;يتعرض الأقباط للتمييز الديني في الحصول على المناصب العليا للدولة وبعض مواقعها الحساسة، كما أن برامج التعليم ووسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية زاخرة بما يعتبر تحقير للأقباط وعقيدتهم، بل وتحريض على معاداتهم وكراهيتهم، في ظل تنامي نشاط جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، بشعارهم السياسي quot;الإسلام هو الحلquot;، مع رمز السيفين وكلمة quot;وأعدواquot;، والذي يشكل تهديداً للأقباط، بما يشعرهم وكأنهم مقبلون على مقصلة، وعلى العودة بهم لعصور الاضطهاد والاستشهاد المنصرمة، وذلك في حالة تنامي نفوذ تلك الجماعة، أو تمكنهم من السلطة.
bull;التمييز في قوانين بناء دور العبادة، وإصرار الدولة على إدراج بناء الكنائس وشئون الأقباط بعامة ضمن اختصاصات أجهزة أمن الدولة، رغم وضوح انعدام العلاقة بين بناء دار لعبادة الله وبين أمن الدول.
bull;تعرض الأقباط في العديد من القرى بل والمدن لحملات من الغوغاء، تمارس القتل والنهب والتدمير، في ظل سلبية واضحة من الأجهزة الأمنية، ثم افتقاد المحاسبة الجنائية في مثل تلك الأعمال، ولجوء أجهزة الدولة لجلسات إذعان عرفي، يملي فيها المجرم شروطه على الضحية، برعاية المسؤولين ونواب الحزب الوطني وأصحاب النيافة والقداسة والسيارات المرسيدس، أو ادعاء الأجهزة أن مرتكب الجريمة مختل عقلياً.
تلك هي الهموم الأساسية للأقباط، والتي ينبغي على أبناء مصر كافة أن يهبوا لمعالجتها، تحقيقاً لصالح الوطن بالأساس، قبل أن يكون إنصافاً لقطاع من أبنائه.
نأتي الآن إلى الادعاءات الباطلة الذي تزعمها بعض من نخب الأقباط، بتحريض واضح وعلني من القيادات الكنسية، وهو ما تجاوز حدود التشويش المسيء للوطن ولإخواننا المسلمين، ليدخل طور التهديد الحقيقي للوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، علاوة بالطبع على أنه يجهض الجهود المفترض توجيهها إلى حيث ينبغي أن توجه.. نعني بالتحديد الادعاءات التي تتكاثر يوماً فيوماً عن حالات اختطاف لفتيات مسيحيات، من قبل شباب وهيئات إسلامية، بالتواطؤ مع أجهزة أمنية.
في غياب الشفافية من قبل المؤسسات الأمنية بالدولة، وأيضاً مع شبهة تواطؤ من تلك الأجهزة للتكتم والتعمية، ولتمرير بعض الحالات على هوى عناصر معروفة لم تترك مؤسسة بالدولة إلا واخترقتها، لا نملك إلا تكوين وجهة نظر في تلك الحالات، بناء على ما تعرضه علينا وسائل الإعلام، من جرائد وفضائيات، صارت تلهث وراء مثل هذه القصص.. رغم هذا يمكننا بسهولة اكتشاف أن أغلب تلك الروايات هي محض كذب وتزييف، فلا أحد في المجتمع المصري يقر أو يقبل باختطاف النساء، سواء لأغراض جنسية أو دينية، وما يعرفه المجتمع في هذا الشأن ينحصر في بعض الحوادث الفردية، لشباب يكونون غالباً من المدمنين للمخدرات، يمارسون نزوات عارضة، لا يميزون فيها بين مسلمة ومسيحية، ويتصدى الأمن والقضاء لتلك الممارسات بأحكام رادعة، وفق قانون ينص على عقوبة الإعدام لمرتكب مثل هذه الجرائم.
هذه الحالات التي يتصايح بها البعض، لتتلقفها منهم وسائل الإعلام ومواقع الإنترنت، هي في الحقيقة إما لمراهقات مسيحيات وقعن في هوى أقرب من تجده من الشباب، دون أن تمتلك من التعقل وحسن التربية ما يحميها في هذه الفترة العمرية الحرجة من الانحراف، والانحراف هنا لا يتعلق فقط بالارتباط بمن يخالفها في الدين، ولكن أيضاً في المستوى الاجتماعي والتعليمي، علاوة على توقيت وظروف الطرفين، والتي في كثير من الأحيان لا تتيح لهما الزواج وتأسيس علاقة أسرية سليمة، وتبقيهما في نطاق العلاقات السرية غير المشروعة، والمجتمع المصري يحفل بمثل هذه الانحرافات عن الخطوط التقليدية الصارمة، التي رسمها المجتمع المحافظ بطبعه، لكنه ndash; أي المجتمع ndash; اعتاد التستر على هذه الحالات، ومداواتها بطريقة أو بأخرى، كجزء من التأقلم والنفاق المجتمعي، الذي يحتمه واقع مجتمع مغلق، تحتشد حياته بالموانع والخطوط الحمراء، يصر عليها ويزيد منها كماً وكيفاً، وفي نفس الوقت يغمض عينيه عما يحدث من تجاوزات بل وسلبيات لها، شريطة أن تبقى مستترة تحت السطح.
لكن ما جد هذه الأيام هو أنه في حالة ما إذا ارتبطت فتاة مسيحية بشاب مسلم، فإن أهلها تحت وطأة الشعور بالعار الاجتماعي يحولون الأمر من مسألة عائلية شخصية - تعنيهم وحدهم، وتتعلق بطريقة تربيتهم لأولادهم وبناتهم- إلى قضية طائفية، فيتحول الغرام إلى اختطاف، والعشق إلى اغتصاب وأسلمة بالإكراه!!
هنالك نوعية أخرى تنتمي فيها الفتاة إلى أسرة تعاني اضطرابات في علاقاتها الداخلية، فتحاول التمرد على هذا الوضع بالخلاص منه، أو محاولة إحداث هزة في الأسرة ربما تعيدها إلى الصواب، أو من قبيل الانتقام من والديها، وهنا قد تلجأ لإقامة علاقة مع شاب من غير دينها، لكي يحدث تصرفها أقوى تأثير على من تستهدفهم.
نوعية أخرى من الحالات مماثلة لحالة السيدة وفاء قسطنطين الشهيرة، ورفيقتها الحديثة كاميليا شحاته.. زوجة ضاقت ذرعاً بحياتها، واستنفدت جميع الطرق المتاحة لها لتحسين وضعها دون جدوى، فلم تجد في النهاية غير طريقة إشهار إسلامها، سواء لمجرد الحصول على الطلاق الذي يصر قداسة المعظم على تحريمه، أو للارتباط برفيق بمسلم، تبدأ معه حياة مختلفة عن تلك التي ذاقت منها المر والهوان والتجاهل من نواب الله المقدسين!!
يمكننا هنا أن نرصد تقاعس أو فشل الكنيسة في معالجة شئون رعيتها، بل وفشل بعض كهنتها الذين يدعون أنهم وكلاء الله على الأرض في رعاية عائلاتهم، حتى تصل الأمور بزوجاتهم إلى الهروب، مما يشكل فضيحة مدوية لقيادات الكنيسة، لا يجدون مهرباً منها غير ادعاء اختطافها لأسلمتها، ويستغلون سلطانهم على الشعب القبطي المسكين، لتسيير مظاهرات تهدد أمن البلاد.. ربما لن يجرؤا على تكرار هذا الأمر ثانية، بعد افتضاحهم الذي صار بجلاجل بعد الحادثة الأخيرة للسيدة/ كاميليا شحاته، التي لحقت في معتقلات الكنيسة بزميلتها الشهيرة وفاء قسطنطين!!
لن نتوجه بخطابنا هذا إلى أصحاب القداسة والنيافة قادة الكنيسة، فهم ربما منشغلون فيما هو أهم من منظورهم، كالمبالغة في عمارة الكنائس، وارتداء الملابس المذهبة، وإقامة الطقوس وتكرار المواعظ المظهرية المحفوظة عن ظهر قلب، وجمع الأموال وركوب أفخم السيارات، أما معالجة المشاكل الأسرية وعلى الأخص الفقيرة منها، فأمر تافه وثقيل الظل، ولا وقت لديهم لإهداره فيه، وليس هذا ادعاء من مراقب خارجي، وإنما هو عين ما نلمسه يومياً من ممارسات الكهنة في مختلف الكنائس، لتكون النتيجة ما نرى، وعلى نهج الثقافة المصرية لا نواجه تقصيرنا بشجاعة، وإنما نبحث عن شماعة لتعليق أخطائنا وفشلنا عليها، والشماعة في حالتنا هذه جاهزة تنتظرنا!!
لكننا نتوجه لدولتنا السنية، لكي تثبت أنها مازالت حية ترزق، وأنها قادرة على وضع الأمور في نصابها.. قادرة على محاكمة القيادات الدينية، لتوقع أقصى عقوبة على من يثبت عليه تضليل الجماهير، والدفع بها إلى تظاهرات غير مشروعة، من أجل قضايا مزيفة، لتهدد الأمن القومي، وتضع البلاد على شفا فتنة طائفية حقيقية.. مطلوب من دولتنا الرشيدة أيضاً أن تتخذ موقفاً حازماً ومسؤولاً، من منظمات رسمية في الدولة، تقوم بالرعاية المادية والمعنوية لحالات هروب فتيات مسيحيات مع مسلمين، فمثل هذه المنظمات تلعب دوراً خطيراً مدمراً في المجتمع، بل وربما كانت تلك المنظمات نفسها وراء تشكيلات الإرهاب السرية، التي تطل برأسها علينا بين وقت وآخر.. مطلوب من الدولة الإقلاع عن سياستها الفاشلة في مواجهة هذه الحالات، بسياسة التكتم وعدم شفافية، بل وتعمد أجهزة الدولة ووسائل إعلامها الرسمية إصدار بيانات وتحقيقات لا يكاد يصدقها أحد مهما بلغت غفلته.. كذا التحقق والتحقيق فيما يقال عن تواطؤ بعض عناصر الأجهزة الأمنية، سواء بعدم قيامها بواجباتها إزاء حالات هروب وزواج القاصرات، أو بتناول الأمر بروح تعصب طائفي، بالتستر على مثل تلك الحالات، ومخالفة القوانين التي تحكم مسألة تغيير الديانة (إشهار الإسلام)، وما تنص علية من إجراءات محددة، تكفل الشفافية، وتتيح في نفس الوقت حرية الإنسان المصري في خيارات حياته وعقيدته، علاوة على ضرورة إصدار قوانين تكفل حرية تغيير العقيدة لجميع المصريين باختلاف أديانهم.
نحتاج إلى مجتمع سليم ووطن قادر معافى، نواجهه به تحديات العصر، وهذا لن يتحقق إذا ما صمَّت الأغلبية آذانها عن أنين وصراخ الأقلية، كما لن يتحقق إذا ما غفلت الأقلية عن حقوقها، وانشغلت بمعارك مزيفة ومزايدات، تهرب بها من مواجهة مشاكلها الداخلية.. كما لا يمكن أن نتقدم خطوة واحدة باتجاه الحداثة والتقدم، وحكامنا يلعبون دور المتفرج والوطن يتمزق، إن لم يلعبوا دور الشرير الذي يلعب على تناقضاتنا، ليزدادوا رسوخاً واطمئناناً على كراسيهم.
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات