المفترض منطقياً، وكما نرى حولنا في الكثير من شعوب العالم، فيما خلا منطقة الشرق الأوسط، أن النقمة تنجب ثورة، والثورة تنتج تغييراً عميقاً في سائر مناحي الحياة.. لكن الحادث أن شعوبنا محتقنة على الدوام بالنقمة على حياتها وحكامها، لكن نقمتها تلك لا تدفعها لأي تغيير في مفاهيمها ومعالم حياتها وطرائق معيشتها وعلاقاتها، بل بالعكس، فما نشهده اليوم ومنذ مايزيد عن ثلاثة عقود مضت على الأقل، أن هناك تناسباً طردياً بين تصاعد معدلات النقمة، وبين المبالغة غير المسبوقة في التشبث بالقديم، رغم مظاهر أو قشور التحديث، التي توفرها لنا منتجات التكنولوجيا، وقد قلنا مراراً أن استيراد التكنولوجيا بدون القيم التي أنجبتها بمثابة زواج من جثة، كأننا مصرون أن يصدق علينا قول نزار قباني quot;خلاصة القضية توجز في عبارة* قد لبسنا قشرة الحضارة* والروح جاهليةquot;.
يمكن أن يكون التساؤل: لماذا نصب جام غضبنا من مرارة الثمار، ونوزع لعناتنا واتهاماتنا في كل اتجاه، ولا يكاد يفكر أو يجسر أحد منا على الاقتراب من الشجرة، لمحاكمتها على ما تنجب من ثمار؟!.. كأننا اتخذنا من الشجرة طوطماً معبوداً، يمثل هويتنا وأساس وجودنا، وبالتالي يكون أي مساس به، أو حتى مجر الإشارة إليه بأصبع اتهام أو تشكك، بمثابة محاولة نسف لوجودنا ذاته.. لقد عبد الإنسان في بداية مسيرته طواطم عدة، بدأت بطيور أو حيوانات، وتطورت إلى جد أعلى تنتسب له القبيلة.. الآن ورغم أنه من المفترض نظرياً أو رسمياً، أننا نعبد إلهاً متعالياً عرفناه عن طريق الأديان الإبراهيمية الثلاثة، باعتباره المقدس الأوحد، وكل ما عداه مادي أو بشري مبتذل، إلا أن نظرة متأملة لأعماق المفاهيم الشعبية عن القداسة والمقدس، بمنأى أو بالإضافة للخطاب المقدس الرسمي، كفيلة بإطلاعنا على الحقيقة، وهي أن مجموع مفاهيمنا وعاداتنا وتقاليدنا قد صارت كتلة واحدة صماء، تم إلحاقها بالمقدس بنسبتها إليه، بغض النظر عن كون تلك النسبة مباشرة وطبيعية بناء على فهمنا للنصوص المقدسة، أو جاءت نسبتها إليه قسراً وتعسفاً، لتدل أبلغ دلالة على أن المقدس الحقيقي في مفاهيمنا ليس الذات المتعالية المتسامية التي نزعم عبادتها، وإنما هو الطوطم القديم، الذي صار الآن يمثلنا، بمجموع مفاهيمنا وطرائق حياتنا، ليكون من حقنا والحالة هذه، أن ننسب لذلك المفهوم الطوطمي، ما نشهده من مقاومة صلبة وعنيدة للتغيير، رغم ما نعانيه في حياتنا من ثمار ذات الشجرة الطوطم.
وفق هذه المفهوم نستطيع أن نعثر على فهم لكثير من الظواهر التي تثير تعجب الكثيرين منا، فالانتشار الوبائي لنظرية المؤامرة، والتي نتخيل بموجبها العالم كله يتآمر علينا ويتفرغ لتدبير المكائد لنا، حتى ليصل الأمر بالبعض إلى التشكك أن في كل جوال قمح معونة يأتينا من الخارج، إنما قد دسوا لنا فيه سموماً أو عقاقير عقم لقطع نسلنا الوافر.. ما كان لهذه النظرية أو النظرة إلى العالم لتنتشر، لولا أنها توفر لنا الضحية البديلة، التي تحمل اتهامات التخلف والفشل بدلاً من طوطمنا المعبود، وبالتالي تتحول نقمتنا من دافع لتغيير ما بأنفسنا، إلى شحنة عداء وكراهية للآخر.
يترتب على هذه النظرة التقديسية لأفكارنا، أن نجد من يصرخ بمقولات غاية في البشاعة، غير منتبه أو ملتفت لبشاعتها، وكيف يمكن لمثل هؤلاء أن يكتشفوا ما فيها من بشاعة، إذا كانوا ينظرون إليها كما ينظر الإنسان إلى أمه التي هي أساس وجوده، فهل فينا من اكتشف في طفولته أن أمه ليست أجمل نساء الأرض؟!!.. تمر برأسي هذه الخواطر، وأنا أقرأ تعليقات بعض القراء على مقالاتي، حين أجد من تكبد عناء تسجيل وجهة نظره فيما قرأ من سطوري، يعرض كلاماً ربما يجوز أن يتهمه به أعدى أعدائه، لينكره هو تماماً، متهماً مقابلة بالكذب والافتراء، لكن أن يثبت هو بنفسه على نفسه تلك الكلمات والمفاهيم، فذلك ما يستعصي أحياناً عن الفهم أو التصديق!!.. إذا تساءلنا كيف يقبل إنسان على نفسه أن يقول هذا الكلام البشع، فإننا يجب أيضاً أن نتساءل لماذا لا يكتشف الكثير من الأطفال أن أمهاتهم أبعد ما يكن عن الجمال!!.. في تصوري أن أننا كل هذا الشخص وإن اختلفت الدرجات، كلنا نردد ببراءة ما تعلمناه من تراثنا المقدس، سواء المحفوظ في الذاكرة أو المعيش، نعرضه على الآخر قائلين هذا هو نحن، وهذه هي هويتنا ووجودنا، فإن كان فيها ما لا يروق لك، فهو العداء والسيف يفصل بيننا!!
لا يبدو على ضوء هذا إن صح ما توصلنا إليه، أن هنالك من أمل في أن تسعى شعوبنا لتغيير حياتها ومفاهيمها.. تماماً كما أنه لا أمل في الحصول على ثمار تختلف عما نتجرعه الآن من ثمار مرة، طالما بقيت الشجرة التي نأكل منها هي ذات الشجرة.. المعضلة هنا هي تقديسنا لتلك الحزمة من المفاهيم والعادات والتقاليد، بموجب دعاوى ميتافيزيقية، وبموجب التوحد بين الوجود الإنساني وبين هذا المقدس.. هو توحد عضوي أشبه بالتصاق شيئين معاً، لكنهما لا يحظيان بذات التقدير، فأحدهما وهو الإنسان مبتذل وعديم القيمة، والآخر هو مناط التقديس والاعتبار، الإنسان هكذا يكون في خدمة المقدس، أي يكون الإنسان خادماً لمفاهيمه وعاداته وتقاليده، وليس العكس بأن تكون كل هذه وسائل قد تنجح وقد تفشل في تحقيق سعادة الإنسان، الذي هو رأس الكائنات وأرقاها!!
لن يتيسر تحقيق أي تقدم في حالة شعوبنا هذه، ما لم يتم قتل الطوطم بمعنى التوقف عن التعبد له.. الكف عن اعتبار تلك الحزمة من المفاهيم والسلوك هي هويتنا ووجودنا، والتحول بالقداسة باتجاه الإنسان، لتقديس حقوقه وحريته.. تقديس الأمومة والطفولة، وتقديس رعاية الحياة والاحتفاء بها، حتى لو كانت حياة أعشاب فطرية أو كائنات برية أو بحرية معرض للانقراض.. لو فعلنا هذا لنصير نحن محل الاعتبار والرعاية، فسوف تتحول نقمتنا على أحوالنا إلى ثورة، والثورة تحرث لنا تربة حياتنا المتعفنة والمحرومة من أشعة الشمس، وسوف نجروء على اقتلاع الشجرة التي تثمر لنا الحنظل، ونستزرع أشجاراً أخرى، تثمر لنا تقدماً وحداثة ورفاهية وحرية!!
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات