نستطيع بتأمل الحراك الفكري والصدامات والاحتقانات بالساحة المصرية حالياً، أن نلمح العديد من العناصر والملامح المشتركة، التي تجمع بين سائر التيارات والمؤسسات المصرية، ومنها كنيسة مصر القبطية الأرثوذكسية بقياداتها وشعبها.. نرصد بوضح ذات المنطق يتحدث ويفكر به الجميع، بل وذات العبارات والأكلاشيهات تتردد هنا وهناك.. قد تحتاج أحياناً لتبديل بسيط لبعض المصطلحات أو لا تحتاج، لتكتشف أن ذات المقولة أو ذات المنطق مستخدم في مختلف المجالات ومختلف الدوائر، وربما هذه الملحوظة بالتحديد هي ما يحق للبعض اعتبارها الإيجابية الوحيدة لهذه الحوارات والصراعات، فهي تؤكد ما نتشدق به عن وحدة وطنية، تلك التي تتصدع أمامنا وتتهاوى، فيما نحن مستمرون في العبث، أو نمارس دور المتفرج في بلاهة وبلادة.
وهل من دليل على وحدة الفاشية الوطنية، أبلغ من استخدام بطريرك الإسكندرية في معرض رفضه الانصياع للقضاء والقانون المصري في مسائل الأحوال الشخصية للأقباط، نفس منطق ومقولات جماعة الإخوان المسلمين المحظورة، من أن القانون الوضعي غير ملزم له، ليس فيما يخص صميم العقيدة المسيحية فقط، وإنما في قضايا حياتية تتعلق بمواطنين في دولة حديثة، وأنه ملتزم فقط بالقوانين الإلهية، التي تكتشفها قريحته المقدسة هو وحده، ثم استناده في رفضه لأحكام القضاء إلى الشريعة الإسلامية، التي تعتبر الأقباط أهل ذمة، تحكمهم عقيدتهم الدينية، وليس قوانين موحدة للأمة المصرية؟
ونجد أسقفاً مرموقاً بالكنيسة القبطية، يتحدث عن مواطنيه المسلمين، باعتبارهم دخلاء أو ضيوفاً على مصر، وهو ذات منطق تيار الإسلام السياسي، الذي يريد تأسيس دولة تقوم على الانتماء الديني وليس الوطني.. لا يهم هنا أي من الطرفين ينسب إليه الفعل، وأيهما رد الفعل، مادام الجميع قد تساووا أخيراً في اعتناق الفاشية.. ونسمع من الأسقف الأكثر استنارة كما كنا نظن، أن الديموقراطية تكون في العمل السياسي وحده، أما العمل الديني فلا كلمة فيه بعد كلمة الإكليروس.. فحتى الجماعة الإرهابية المحظورة يتشدق زبانيتها ويدعون الديموقراطية على سبيل التقية، فيما كنيستنا القبطية الأرثوذكسية تمارس الاستبداد بعلانية واعتزاز، دون خشية من شعب تعلم جيداً أنها قد نجحت في تغييب عقلة، إن لم تكن قد استأصلت هذا العقل من الأساس منذ الطفولة!!
هكذا يفتضح المستور لتظهر جميع الأطراف على حقيقتها، وليس كما تتظاهر به، حين نجد معالم ثقافتنا الفاشية في كل ركن من أركان مصرنا ومؤسساتنا، لا يبرأ منها ظالم أو مظلوم. أغلبية أو أقلية. سلطان مستبد أو مدعي فضيلة وقداسة.. الافتضاح الأول هو افتقاد الشفافية، وانتهاج سياسة التعتيم والتكتم، بدعوى الحفاظ على سمعة الكيان الحبيب الذي نعتز به، فالذين يتحدثون عن الشمولية وممارسات النظام السياسي القمعية، وعن الفساد المستشري في أجهزة الدولة، يتم تصويرهم على أنهم يسيئون لسمعة مصر بنشر quot;الغسيل القذرquot; على العالم.. هنا الكوميديا السوداء، أن يتحول المتهم وصاحب quot;الغسيل القذرquot; إلى قاض ومدع عام، ليحاكم الضحية أو المتشكي من quot;قذارة الغسيلquot;.. هو ذات ما يفعله الأقباط المحبون لكنيستهم والمغيبون بخطابها الشمولي، والذين تربوا على أن رجال الدين هم نواب الإله، وعملياً هم الآلهة الحقيقية التي يقدسونها.. هؤلاء يزعجهم كثيراً أي حديث عن أخطاء داخل الكنيسة التي يديرها آلهة معصومة من أي زلل.. لكنهم بعد استهلاك بعض الوقت في الانزعاج، من المفترض منطقياً لو تبقى لدى الناس ولو اليسير من التعقل واحترام الذات، أن يستديروا ليتبينوا حقيقة ما انزعجوا منه من ادعاءات، والسعي لتلافي ما يثبت صحته منها.. من المفترض القيام بهذا حباً واحتراماً لأنفسهم ولكنيستهم ولآلهتهم الأرضية، لكن أن ينتقلوا من الانزعاج إلى رجم الناقدين دون بحث وتدقيق وتدبر، فهذا هو ما نتهم به النعامة بأنها تدفن رأسها في الرمال، لكي يختفي الخطر لمجرد أنها لم تعد تراه، ليبدوا وكأن حرص الأقباط على أن يظهروا أمام إخوانهم المسلمين على أنهم ملائكة بلا أخطاء تخوفاً من الشماتة، أهم لديهم من حقيقة واقع المؤسسة الدينية التي ينتمون إليها!!
الافتضاع الثاني ما نجده من أن أحادية الفكر والجمود سمة مشتركة لكل مكونات الوطن، فجميع أفكارنا لابد وأن تكون مطلقة الصحة والقداسة، والنقد أو امراجعة لا نراها كما تراها جميع الشعوب الحية، ركناً أساسياً وآلية ضرورية لحيوية وتطور حياتنا وسط عالم دائب التغير، لكنها في شرعنا مروق وعدائية من قلة، قد ننعتها بالجهل أو الخيانة أو الكفر أو بالارتزاق.. تتعدد الاتهامات كل حسب مجاله، والمنهج واحد.. الجمود والتخلف عن مسايرة تيار الزمن، والعجز عن التعديل والتحسين المستمر، الذي يحول دون تراكم الأخطاء حتى نقطة الانفجار أو الانهيار.. لكن الإنصاف يقتضي منا أن ننوه إلى أن الجمود صفة أصيلة يتميز ويعتز بها فكر الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وليس مجرد صفة عرضية مكتسبة من الوسط المحيط، ولعلنا نلاحظ أن المؤسسات السياسية المصرية قد تطورت إلى حد ما في العقود الأخيرة، من حيث نظرتها للمعارضة ولو رسمياً ومظهرياً، فصارت تعتبرها جزءاً من النظام، وتتشاور معها في العديد من الأمور، أو على الأقل تتظاهر بأنها تفعل.. على ذات النهج تطورت المؤسسة الدينية الإسلامية ممثلة في الأزهر، ونرى لبعض رموزه مجهودات محفوفة بالصعوبات والعثرات، للتوافق مع العصر ومفاهيمه، مع التحفظ بالطبع على التوجه العكسي لآخرين أعلى صوتاً وأكثر سطوة على الشارع، يحاولون السير في الاتجاه المضاد.. لكن مازالت المؤسسات الدينية المسيحية، وعلى رأسها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية (في غير المسائل العقائدية واللاهوتية الثابتة بطبيعتها)، مصرة ومعتزة بأحادية الخطاب وجموده أو ثباته عبر عشرات القرون، ومصرة على إشهار سلاح الهرطقة في وجه المبتدعين واليهوذات، الذين هم كل من يتجرأ على التفوه برأي مختلف.
ملمح مصري آخر للأقباط وكنيستهم القبطية الأرثوذكسية فيه دور الريادة والسبق على مستوى مصر كلها، وهو غياب العقلانية وسيادة الفكر الغيبي الخرافي، فالأقباط في مصر يؤسسون للخرافة ويغوصون في غياهبها، فيسارع أخوة الوطن من المسلمين إلى تقليدهم من قبيل التأثر والمنافسة، فينتشر الدجل والشعوذة والعلاج بالرقى والتعاويذ، وإخراج الجان والأرواح الشريرة من الأجساد المتلبسة بها.. فالأقباط المستضعفون في مصر بأغلب المقاييس وجدوا في الكنيسة السلوى عن بؤس حالهم، وبدأوا يتخذون من المعجزات مهرباً من المواجهة العملية العلمية للإشكاليات، ومنها تفاقم تكلفة العلاج الطبي، وفي حين لم تؤد المستشفيات الملحقة بالكنائس إلى خفض حقيقي وجاد في تكلفة العلاج، خاصة للفقراء والطبقة الوسطى، رغم أن مبانيها ومعداتها من أموال التبرعات.. نجد بالكنيسة الترويج لحكايات المعجزات، بدءاً من العمليات الجراحية التي يجريها القديسون للمرضى أثناء نومهم، إلى التداوي بشرب مزيج من الماء وتراب مأخوذ من قبر أحد القديسين، مروراً بالزيت الذي تنضح به الأيقونات والظهورات وغيرها.. ولم يدعهم المسلمون ينفردون بغياب العقل، فهرعوا هم أيضاً إلى الطب النبوي والاستشفاء بالقرآن، وإلى التداوي ببول البعير.. هكذا بات غياب العقلانية وتجاهل العلم والجهل به، والولوغ في غياهب الغيبيات والتفكير الخرافي، أشبه بسرطان يفتك بالجسد المصري.
طغيان دور الفرد القائد على سائر الأدوار المفترض أن تضطلع بها -ضمن النظام- لجان متخصصة، هو ملمح مصري آخر متجذر في أداء الكنيسة، سواء عند القمة، أو عند القاعدة في مختلف الكنائس في ربوع البلاد، يرجع هذا إلى الثقافة الشمولية الأبوية السائدة بالمجتمع، والتي تركز على دور الأب القائد والملهم، الذي ينصاع الجميع لأوامره ويستشعرون الأمان بالارتكان إليه.. حتى حين ينقمون يوجهون نقمتهم إليه.. فما نسميه بثورة يوليو 1952 قد اختزلت كلها في شخص جمال عبد الناصر، يهتف المؤيدون باسمه، ويصب المعارضون عليه اللعنات، ونفس هذا نجده في الكنيسة القبطية، فأي نقد يؤخذ على أنه طعن في شخص البابا وذاته المقدسة التي لا تمس.. هكذا تختزل الكنيسة في واحد، كما أن الدولة المصرية مختزلة هي الأخرى في واحد.. هكذا ليس لنا أن نتعجب ونحن نسمع أساقفة قداسة البابا وهم يكررون مقولة أن البابا شنودة سيظل على كرسيه حتى يسلم الكنيسة للمسيح في آخر الزمان، حتى لو كان هذا يعني أمرين، أولهما أن البابا سيكون لهم عمر الآلهة، ليمتد به العمر إلى نهاية الزمان، وثانيهما أن الكنيسة الآن بيد البابا، وأنه لن يسلمها للمسيح إلا في نهاية الزمان!!!
الحقيقة أننا في معرض استعراض تأثر الجميع بالثقافة السائدة بالبلاد، لا ينبغي أن نتجاهل طبيعة فكر الكنيسة وخطابها العقيدي، وهو الفكر الذي يعطي للكهنة ورؤسائهم قداسة لا تقتصر فقط على جانب العبادة والعقائد الإيمانية، وإنما تمتد إلى كل ما يتعلق بالحياة بصفة عامة وشاملة، وليس فقط أمور إدارة أنشطة الكنيسة.. فالأقباط صاروا في هذه الأيام يستفتون الكهنة في أدق أمور حياتهم الشخصية، ومن غير المتوقع والحالة هذه أن يقوم العلمانيون بدورهم الأساسي في إدارة الكنيسة، إذا كانت أمور حياتهم الشخصية يقوم فيها الكاهن بدور المرجعية المقدسة.. نرصد أيضاً غياب اللوائح والنظم الرسمية والمحكمة التي تحكم العمل في أنشطة الكنائس، سواء من الناحية المالية أو الإدارية، حيث يعتمد تسيير الأمور على الكفاءة والأمانة الشخصية للمسيطرين على النشاط، سواء كانوا كهنة أو من العاملين في معيتهم، ومن الواضح أن هذا الوضع إن كان يصلح بدرجة ما في إدارة أعمال محدودة الحجم والنوعية، فإنه حالياً في ضوء التوسع الهائل في أنشطة الكنائس وتضخم حجم الأموال التي تنهال عليها، يعتبر فوضى شاملة.. وحيث توجد الفوضى، لابد أن ينمو الفساد ويستشري.
عديدة هي الآفات والإشكاليات في الوطن المصري وكنيسته القبطية الأرثوذكسية، وجميعها مما لا يتأتى علاجه بين عشية وضحاها، لكن يلزمنا في المقام الأول الوعي والإقرار بهذه الإشكاليات وأسبابها الجذرية، ثم الإخلاص في البحث عن حلول لها.
الولايات المتحدة- نيوجرسي
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات