بالتأكيد لايفكر أحد ممكن يحكمون مصر الآن في البحث عن علاج جذري للخلل الحادث منذ أكثر من نصف قرن، في العلاقة بين أقباط ومسلمي الوطن الواحد، وبين الأقباط ودولتهم؟.. فالعلاج المخلص والعلمي لمشاكلنا الوطنية أمر غير متوقع من أوليجاركية تنتهج سياسة قصيرة المدى للبقاء، تعتمد على التعامل اليومي مع المشاكل، لإخماد مظاهرها الصاخبة أو الظاهرة بمنهج إطفاء الحرائق، والتوقف عند هذا الحد، دون البحث في كيفية منع تكرارها، ولو بعد بضع أيام أو أسابيع.. فالحلول الجذرية تتطلب من حكامنا جهوداً وعزيمة، هم غير راغبين أو قادرين على دفع تكلفتها.. هكذا نجد مسلسلات مشاكلنا تكرر نفسها بنفسها، لنعيد نحن المهمومين بمصير وطننا تكرار تحذيراتنا وتحليلاتنا، كمن quot;يؤذن في مالطةquot;، وهو الأمر الذي لا نملك سواه، بقدر ما لا نملك الصمت وانتظار المصير، حتى لو صدق علينا بحق قول القائل: quot;لقد أسمعت لو ناديت حياً * ولكن لا حياة لمن تناديquot;!!
لا نقول أن الحلول الجذرية سهلة وميسورة، ولا تقتضي كما يتصور البعض إلا بضع قرارات وزارية أو حتى جمهورية، لكي يستقيم الأمر ونشهد وطناً واحداً مستقراً لجميع أبناءه.. نعم هناك علاج عاجل وموضعي لمشكلة المواطنة في مصر يمكن ويلزم الإقدام عليه فوراً، وأغلبه متضمن في تقرير لجنة مجلس الشعب برئاسة د. جمال العطيفي عام 1972، والذي قام به بعد ما سمي بالفتنة الطائفية، والذي دخل الأدراج ولم يعد من يومها.. لكن العلاج الشامل للقضية مرتبط بقضية الإصلاح (التغيير) لأحوال الوطن ككل، إذ يحتاج لأن تتحول مصر شعباً ودولة إلى كيان حديث، وتودع عصورها الوسطى، لتدخل عالم الألفية الثالثة بقيمه ومفاهيمه.. وهذا لن يحدث ومصر تقودها تلك الطغمة المتحكمة في أمورها الآن، فالأمر يتطلب استنارة وإخلاصاً وجهداً دؤوباً، يخرج بالتأكيد عن دائرة إمكانيات وصفات المهيمنين على الأمور، والذين لا هم لهم غير استنزاف عصارة الحياة من شرايين شعب أو أمة تحتضر بين براثنهم.
ما يحكم حياة الشعوب عامة عاملان، أولهما النظم والقوانين المتفق عليها والمستقرة، والثاني هو الثقافة التي يتحرك الناس على هديها، ويُفَعِّلون هذه القوانين، في حالة ما اذا توافقت ثقافتهم معها، وقد يُبطلون مفعولها، أو يفرغونها من مضمونها، إذا ما كنت النظم والقوانين مفارقة لواقع الحال الثقافي والاجتماعي للشعب.. ونحن في مصر نواجه إشكاليات في كلا الجانبين أو الشقين.. فالنسبة للنظم الرسمية والقوانين فيما يخص المساواة وحقوق الإنسان، هناك اختلالات ليست بالقليلة فيما يخص غير المسلمين والمرأة، لكن الحال في الشق الثقافي والاجتماعي للشعب أسوأ بكثير في بعض الجوانب.. فالمرأة ينظر إليها على أنها ناقصة عقل ودين، وهذا ينسحب على نظرة المرأة ذاتها لنفسها، وليس فقط نظرة الرجل لها، ونستطيع أن نرصد هذا مما نعايشه، من أن تأثير المرأة على المرأة في دفعها نحو ارتداء الحجاب والنقاب، هو أكثر كثيراً من أي ضغوط يمارسها الرجال نحو ذلك.. الأقباط أيضاً ينظر لهم المتسامحون والمتعصبون من المسلمين على أنهم أهل ذمة، والفارق فقط هو في درجة التضييق عليهم نتيجة لهذه النظرة.. ونجد أن نظرة الأقباط إلى أنفسهم لا تختلف عن هذا، فنجد ارتماءهم في حضن الكنيسة وقادتها، باعتبارها هي وطنهم الآمن، والملاذ لهم من غربتهم في وطن المسلمين.. وخطاب الكنيسة الذي ينشأ عليه الأطفال والشباب يفاقم من هذه الحالة، إذ يُدخل في روع الأقباط أنهم ليسوا من العالم، فهم أبناء الله المقدسون، بينما العالم كله قد وضع في الشرير.. لاشك أن ما نعرفه quot;بقصر الذيلquot; له دخل كبير في الترويج لهذا الخطاب، حين يواجه الأقباط بالتهميش والطرد من الساحة، لتعمل الآليات النفسية الدفاعية باتجاه الرفض والاحتقار والتعالي الزائف على هذا العالم ومن فيه، لكن استمرارية خطاب الكنيسة المتقوقع والمنغلق على ذاته عبر القرون الطويلة بداية من القرن السابع وحتى الآن، يجعل هذه النظرة الدفاعية المصطنعة من العالم هي الحقيقة الراسخة لموقف القبطي من كل ما هو خارج الكنيسة، وليست مجرد رد فعل وقتي مرتهن بزوال أسبابه الخارجية الضاغطة.. هكذا نجد ما نشهده الآن من توافق وتماثل بل وتعاون، بين خطاب تيار التأسلم السياسي السلفي ممثلاً في جماعة الإخوان المحظورة، وبين خطاب الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، إذ يدفع كلاهما الأقباط والوطن إلى الاستقطاب والتشرذم الطائفي، الذي يباعد بيننا وبين تفعيل مبدأ وثقافة المواطنة، ويكون الحديث عن الحداثة هنا ضرباً من أحلام اليقظة، منقطعة الصلة بأرض الواقع الثقافي والاجتماعي!!
هكذا أيضاً تكون دعوات التحرر للأقباط أو للمرأة، عملية صراع وتطاحن بين مكونات الوطن، وليست عملية حوار مجتمعي بحثاً عن نظم وعلاقات وحياة أفضل وأرقى.. ولابد أيضاً في هذه الحالة من أن يتسيد التعصب الجنسي أو الطائفي الموقف، ويتحول قادة ونشطاء الأقباط مثلاً، إلى مروجين للاستقطاب الطائفي، لتجميع القوى الكافية لتحقيق الانتصار على أبناء الوطن من الطرف الآخر، فنجد صاحب نيافة يصف المصريين المسلمين بأنهم ضيوف، وآخرون يصفونهم بأنهم غزاة عليهم الرحيل، ويكون القبطي الذي ينشد دولة المساواة والمواطنة الحقيقية من خارج دائرة التعصب الطائفي، وكأنه خائن لأبناء قبيلته القبطية!!.. هكذا لن يكون مفيداً إلا قليلاً، أي محاولة لتعديل القوانين والنظم التي تحكم العلاقة بين أبناء الوطن، دون أن يصاحبها ويتوازى معها تطور في الثقافة المجتمعية، كيلا تصير تلك القوانين الجديدة حبراً على ورق، أو حرثاً في مياه البحر!
إن نظرة متمهلة لما يعاني منه الأقباط من تعصب ديني في المعاملات مثلاً، تكشف لنا ارتباطه بانخفاض أو حتى انعدام الوعي بحقوق الإنسان عامة.. غياب احترام قيمة الإنسان الفرد في حد ذاته، بغض النظر عن لونه أو عرقه أو دينه.. هذا الحالة لا علاج لها إلا بشيوع مناخ ليبرالي يقبل بالاختلاف، ليصير عندها عامل ثراء للوطن، ويعلي من شأن الفرد لذاته وبذاته.. ذلك بالبراء من الثقافة الأبوية، التي تنظر للبشر كقطيع مطلوب منه التوجه صاغراً إلى حيث تشير عصا قائده.. فعندما يكون الأمر أمر اختيار أي قطيع لقائد أو راع يسوقه، وليس أمر تقرير الفرد لتوجهاته ومصيره بيديه، فلاشك أن الأولى هنا أن يختار كل قطيع قائده من بين أفراد طائفته أو قبيلته، فيكون شيخ الإسلام أولى بالقيادة من المسلم العلماني، ويكون تولي الأقباط للمناصب السيادية بمثابة تسليم قطيع المسلمين لرقابهم للذين كفروا.. كما يكون من الأولى بالأقباط أن يسلموا لرقابهم لأصحاب القداسة والنيافة، وليس لمسلمين يصنفهم خطاب الكنيسة بأنهم أولاد العالم الذي يترأسه الشيطان.
على هدى من تلك الرؤية الليبرالية نرى مطلب حذف خانة الديانة من بطاقات الهوية، الذي يلح مثقفو مصر أقباطاً ومسلمين على المطالبة به، فمن المفترض أن بطاقة الهوية تحدد هوية الفرد ذاته، كمواطن فرد فريد في دولة حديثة، فذكر خانة الديانة فيها يخلع عن الإنسان فرديته، بالإصرار على إدراجه ضمن جماعة أو قطيع، كأن المجتمع أو الدولة ترفض الاعتراف بالفرد إلا في إطار انتمائه إلى جماعة.. فالمسألة أعقد وأوسع من قضية محاصرة أو اضطهاد أقلية دينية من قبل أغلبية، إنما هي الإصرار على خنق أو إلغاء فردية الإنسان وبالتالي حريته، سواء كان هذا الفرد رجلاً أم امرأة، مسلماً أم مسيحياً، أم يدين أو لا يدين بأي ديانة أخرى!!.. هو التغيير الشامل إذن، في الثقافة ونظم الدولة ومؤسساتها الحكومية والمدنية، بما فيها مؤسسة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وخطابها، الذي يزرع في الأقباط روح انتماء القطيع، ويصور لهم العالم خارج الكنيسة كعالم من الذئاب أو الأشرار، يتربصون بأي خروف يشرد عن القطيع، ليقتنصونه ذبحاً وسلخاً!!
المفترض أن تمثل مؤسسات الدولة جميع المصريين على قاعدة المواطنة، وأن يكون جميع الأفراد أمامها سواء، وحين تقصر مؤسسات الدولة المدنية عن احتواء الجميع، باختلاف مصالحهم وظروفهم، فإن هذا يعني أن هناك خللاً في هذه المؤسسات ينبغي تداركه، لأن هذا الخلل هو الذي يدفع المصريين باختلاف أديانهم للجوء إلى حضن رجال الدين، يلتمسون منهم الحماية والإرشاد.. يستوي الجميع في هذا الهروب إلى الدين ورجاله، نتيجة لفقد الثقة في إخلاص ونزاهة رجال الدولة.. ما يحدث الآن في ظل الفساد السياسي، المستعصي على أي إصلاح حقيقي يعيد الأمور إلى نصابها، ويعيد الشعب المصري بمختلف فئاته إلى الالتفاف حول رموزهم المدنية، هو أن يسعى رجال الدولة إلى رجال الدين، يلتمسون أو يشترون ولاءهم، ليتمكنوا من السيطرة غير المباشرة على الناس.. إن هذا الوضع القائم منذ أكثر من أربعة عقود على الأقل، هو الأساس الحقيقي لدينية الدولة المصرية، بغض النظر عن شكلها الظاهري، وعن مواد الدستور التي تؤسس بالفعل لدولة مدنية، ولقد كان السادات صريحاً ومدهشاً وعلى درجة يحسد عليها من الحماقة، حين عبر عن هذا الوضع بوضوح في تأكيده العلني بأنه quot;رئيس مسلم لدولة إسلامية يعيش فيها مسيحيونquot;!!
هكذا يلزم بداية أن تسترد الدولة شعبها من رجال الدين، أو يسترد الشعب دولته من تلك الأوليجاركية التي يضرب الفساد في مفاصلها ويسري في شرايينها.. حين يتحقق هذا ستكف الدولة تلقائياً عن التعامل مع قيادة الكنيسة على أنها الممثلة للأقباط فيما يتعلق بشئون الوطن، فدعوة رأس الكنيسة بجانب شيخ الأزهر لحضور المناسبات والاحتفالات السياسية والقومية، إن كانت تأخذ الآن ظاهرياً شكل التباهي بجمع شطري الأمة، إلا أنها حقيقة تشطر وحدة الأمة، فالتصنيف الديني تصنيف نهائي عنصري، وأي محاولة للتوحيد من خلاله بعد ذلك مستحيلة.. فشيخ الجامع الأزهر وبطريرك الكنيسة القبطية لا يصلحان رغم احترامنا لشخوصهما لأن يكونا رمزاً لوحدتنا الوطنية، هما على العكس دون جميع القادة في المجالات الأخرى، رمزان لتفرقنا إلى فريقين الحدود بينهما حاسمة ومقدسة.. نفس هذا المنطق نرى به شعار حزب الوفد مثلاً، مع احترامنا للنية الطيبة التي يتضمنها، فالهلال والصليب ليسا ما يجمع المصريين على أرض الواقع، وإن كانا أحد مكونات الشخصية المصرية، في أمر خاص وفردي في علاقة الإنسان بربه.. فالنيل وواديه يجمعنا، والتاريخ المشترك وآثاره العظيمة تجمعنا، والطبيعي أن نأخذ مما يجمعنا رمزاً لوحدتنا، وأن نترك ما يفرقنا لخصوصية الإنسان، لا أن نقحمها فيما هو عام ومشترك.
وحين تحتاج دولة حديثة لمن تتحدث معه عن مشاكل مكون من مكوناتها مثل الأقباط ولا تجد إلا رجال الدين، أو عندما تتعامل قوات الأمن مع مظاهرة لشباب قبطي بالذخيرة الحية، فتقتل من تقتل وتصيب من تصيب منهم، وكأنها تدخل معركة من معاركنا الفاشلة لتحرير فلسطين، فإن هذا يعني أن هناك قصوراً وفراغاً في مؤسسات الدولة الرسمية والمدنية ينبغي معالجته وتداركه، سواء في الوزارات المختصة، أو أجهزة الحكم المحلي أو مجلس الشعب، أو الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية.. إن أخطر ما نعاني منه منذ السبعينات (الحقبة الساداتية) هو اختلاط الأوراق، والتوسع العشوائي لأنشطة ونفوذ المؤسسات الدينية وقادتها، فصارواً يفتون في كل شيء، في الاقتصاد وقوانين الضرائب ونظم البنوك، وفي الفنون والثقافة والسياسة، وفي قضية فلسطين والعراق وأمريكا والإمبريالية، صاروا المرجع في كل الأمور، وتوارى العلماء والخبراء إلى الدرجة الثانية في أحسن الأحوال، والنتيجة هي الفشل المتفشي في كل نواحي حياتنا!!
القضية إذن ليست فقط هماً حكومياً أو قبطياً، وإنما هي قضية الشعب المصري كله، منظمات المجتمع المدني، أحزاب ونقابات وجمعيات أهلية.. هي مهمة مقدسة أن تستوعب هذه الهيئات الأقباط داخلها، وتتبني قضاياهم كأفراد وكمواطنين، لتكون هي الواسطة بينهم وبين الدولة إذا اقتضى الأمر.. قد يكون من المفيد في رأي البعض سن قوانين مرحلية، تحتم على تلك الهيئات ضم نسبة محددة من الأقباط إليها، وإلى مجالس إداراتها وهيئاتها العليا، وإن كنا نعتقد أن مثل هذه الشروط تضر أكثر مما تفيد، وتكرس التفرقة بين المصريين الذين نسعى لتوحيدهم فعلياً لا مظهرياً، ونفضل أن نترك الأمر لنشاط الأقباط وهمتهم في الالتحاق بنشاط المجتمع الأهلي، ولوعي إخوانهم في الوطن بضرورة الأخذ بيدهم وتشجيعهم، على الأقل في البداية.
بالتوازي مع التغيير على مستوى الوطن، يحتاج الأمر لتغير إداري داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لتصحيح الأوضاع التي أرستها السياسات الشمولية لبطريرك الكنيسة الحالي، والتي أدت لهيمنة الإكليروس على الشئون الروحية والإدارية معاً، فلابد من العودة إلى تولي العلمانيين إدارة الكنائس القبطية الأرثوذكسية في النواحي غير الروحية، كما فعل تلاميذ السيد المسيح، وكما تدار الآن الكنائس البروتستانتية المصرية، وكما كان عليه الحال قبل عهد انقلاب يوليو 1952، والذي ترتب عليه تحكم العسكريين في مصير البلاد في جميع مجالات النشاط، ثم تبعه في المرحلة الساداتية تعاظم نفوذ رجال الدين، وفي مقدمتهم قادة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي قام فيها الرهبان بدور العسكريين.. نحتاج أيضاً لأن تتوقف الكنيسة عن تنظيم أي أنشطة تخرج عن نطاق العبادة، لدفع الأقباط للخروج إلى المجتمع والاندماج في الحياة الاجتماعية والسياسية الوطنية، وأن تمنع الكنائس (وكذا المساجد والجمعيات الخيرية الإسلامية بالنسبة للمسلمين) من تقديم أي خدمات غير دينية للأقباط وحدهم، فالخدمات التي تقدمها أي مؤسسة مصرية لابد وأن تشمل جميع المواطنين بلا تمييز، على غرار يحدث فعلاً الآن في الخدمات الطبية للكنائس.
مصر الآن تعيش مرحلة يمكن بيقين أن نصفها بأنها مرحلة العشوائية في جميع المجالات، حيث تختلط جميع الأوراق، ويتجاور الحداثي مع العتيق البالي، والعلم مع الخرافة، والموبايل والكومبيوتر مع السواك والنقاب، ليكون مزيجاً غير متجانس، وغير قابل للاستمرار أو التطور، ما لم يطرأ ما يجعلنا نتوقف جميعاً لنراجع أنفسنا، ونحسم أمورنا باستبعاد ما يتحتم علينا استبعاده من حياتنا وثقافتنا، ونعتنق ما لابد من اعتناقه من قيم العصر، هذا إن أردنا أن نخرج من مستنقعات تخلفنا، لنلتحق بالعالم الذي فارقنا وفارقناه!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات