بداية أستميح القارئ عذراً، أن أقدم له سطوراً تبدو شخصية، مع وعد أرجو أن أفي به، ألا أعود لاقتراف جريمتي الرواية الذاتية ورواية طبيعة الإيمان، فالإيمان (من عدمه) أمر شخصي محض، لا يخص إلا الفرد ذاته، واستعراضه أو فرضه على الآخرين، ليس أكثر من استنطاع.. عذري في إهدار هذه السطور في أمر شخصي، هو ما يقوم به بعض الكبار (افتراضاً) من إفساد لحياتنا المدنية في مصر، برفع شعارات تصورهم كحماة للمسيحية.. لقد استفزني هذا بالأساس أيما استفزاز، لأن ما يقومون به مدمر لما نسعى إليه بشق النفس في مصر، لتأسيس دولة مدنية عصرية، نفارق بها ظلمات عصورنا الوسطى، التي مازلنا نخوض في دياجيرها في ألفية العالم الثالثة.
لكن بالدرجة الثانية وجدتني إزاء هؤلاء الأكابر أصحاب العظمة والغبطة ومقولاتهم الصارمة والعنترية، أمام مفهوم للمسيحية جديد علي كل الجدة، أنا الذي نشأت في الكنيسة الأرثوذكسية منذ وعيت، وظللت شماساً وخادماً كارزاً في القرى ومدارس الأحد حتى بداية السبعينات، حتى أخذتني الخدمة العسكرية ثم مشاغل الحياة.
بغض النظر عن اختلاف الرؤى ربما إلى حد التضاد التام، حول الماورائيات أو الميتافيزيقا واللاهوتيات، فإن المسيحية طوال رحلة عمري التي قاربت نهايتها، تشكل بالنسبة لي الدماء التي تجري في عروقي، أقول هذا والاتهامات بالإلحاد تتطاير فوق رأسي من فيالق الأرثوذكس في مصر وسائر بلاد المهجر، وفي مقابلها (اتهامات) تشكك في علمانيتي من مجموعة أصدقائي الحميمين، مؤكدة أنني مسيحي حتى النخاع!!.. يبدو أن كلا الطرفين لا يعدم مبررات منطقية وصحيحة لبعض ما يقول!!
لا أعرف المسيحية عقيدة جامدة ذات نص مقدس، يجمع بين ضفتيه مجموعة أوامر أو وصايا، ينبغي على المسيحي السير بموجبها ولو ظاهرياً، وإلا عُد خارجاً على الدين.. لا أعرف المسيح كمُشَرِّع أطلق أوامره مرة وإلى الأبد، ليأتي الآن نوابه ليحيلونها إلى قوانين، مستعينين برجال الشرطة لكي يجبروا الفرد أن يكون مسيحياً حقيقياً وملتزماً.. العجيب أن المسيحية التي تربيت على مبادئها وروحها معاكسة تماماً لما آراه الآن.. أعرف أن المسيح رفض تنصيب نفسه قاضياً لمن طلب منه أن يأمر أخاه أن يقاسمه الميراث، كما لم يكتب هو وصايا، ولم يأمر أحداً من تلاميذه أن يكتب ما يقول.
لم يأت المسيح ليخبرنا بتعليمات إلهية مقدسة، بل أعرف أن النبوءة قد قالت عنه: quot;هوذا السيد يعطيكم نفسه آيةquot;.. قد جاء ليعطينا ذاته، التي هي محبة، وكان يجول يصنع خيراً، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب.. بالمسيح ابن الإنسان نتلامس مع حقيقة الله باعتباره محبة، والمحبة لا يمكن بأي حال أن تتولد بالقوانين والتشريعات، ولا يمكن أن يشرف على نمو المحبة في قلوبنا قاض ورجل شرطة.. قلب المسيحية وحقيقتها تتركز فيما يعرف بموعظة المسيح على الجبل، وكل ما جاء فيها رغم طولها النسبي، لا يعدو أن يكون تنويعات على نغمة واحد هي المحبة.. أحبوا الذين يكرهونكم، باركوا لاعنيكم، احسنوا إلى الذين يسيئون إليكم.. هل تفيد مع هذا الكلام القوانين والتشريعات؟!!.. من يفشل في فهم قول السيد المسيح quot;ماجئت لأنقض الناموس بل لأكملquot;، يفشل في الولوج من عتبة باب المسيحية، ورغم أننا نردد هذه العبارة كثيراً، إلا أنه يبدو أن القليلين من استطاعوا فهم أبعادها.
يؤمن المسيحيون أن المسيح هو الله، أي أنه هو ذاته واضع ناموس (قوانين) موسى، التي هي الحد الأدنى الذي ينبغي أن يلتزم به الإنسان، ليكون جديراً بما تحمل كلمة quot;انسانquot; من معان إيجابية.. لو كان السيد المسيح له المجد قد جاء ليأمرنا بقوانين أخرى إضافية أفضل، لكان يستطيع بسهولة وبلا حرج أن ينقض الأولى (لأنه هو واضعها بالأساس)، ليأمرنا باتباع القوانين الجديدة!!.. لكن ما جاء به السيد ليقدمه بذاته ممثلاً في ذاته وهو المحبة، لنرى من خلالها العالم وكل من فيه، لا ينفع فيه القوانين والأوامر والنواهي الصارمة.. فأي محبة تلك التي نزعمها تحت رهبة سيف أو سوط القانون؟!!
لم ينقض السيد الرب الناموس، لأنه أراده أن يبقى لتحدد لنا تشريعاته الحد الأدني المطلوب في المسيحية، بذات القدر الذي كان مطلوباً به في اليهودية.. فنحن لو استبدلنا قوانين موسى بأخرى، فهل يتبقى من قول quot;ماجئت لأنقضquot; غير شعار خال من المضمون؟!!.. لتبق تشريعات موسى وما في مستواها على حالها، لتحكم الجسد محدود الإمكانيات والقدرات، أما استكمال مسيرة البشرية في الارتقاء quot;نحو إنسان كامل، إلى قياس ملء قامة المسيحquot;، فهذا لا يمكن أن يتم إلا بمخاطبة الروح أو ما نسميه القلب.. القلب هو الذي يقبل حديث المحبة، التي تقول quot;إذا جاع عدوك فاطعمه، وإن عطش فاسقهquot;، لا يتم هذا وبالصورة الحقيقية (وليست المصطنعة) عبر الالتزام بقوانين وتشريعات، نطلق عليها تسمية متناقضة quot;شريعة الكمالquot;، فالكمال لا تفرضه تشريعات، فالتشريع فقط يكون لتحديد الحد الأدني المقبول من المجتمع.. وصايا السيد المسيح القائمة على المحبة، تبدو لمن يقاربها بلغة الجسد مستحيلة وربما غير منطقية، وهذا صحيح إلى حد ما وفق منطلقات الجسد وحدود قدراته.. لكن لمن يقدر (ليس الجميع يقدرون) على مواصلة مسيرة الرقي، فيسبح مع السيد المسيح في نهر المحبة، مثل هذا الإنسان يتخطى التشريعات وما تمثله من حد أدنى، ليرتقي في سلم الإنسانية المُحِبَّة والباذلة، إلى حد أن يبذل ذاته، طوعاً ودون مراقبة قضاة ورجال شرطة!!
أعرف أن quot;الكلمة صار جسداً وحل بينناquot;، وأعرف أيضاً أنه quot;عظيم هو سر التقوى، الله ظهر في الجسدquot;، كما أعرف أنه quot;هكذا أحب الله العالم، حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن بهquot;.. فهل فعل كل هذا لمجرد أن يخبرنا بقوانين جديدة تُصَعِّب علينا حياتنا، وهو من قال quot;تعالوا إلى يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلموا مني (المحبة وليس الصرامة)، لأن نيري هين وحملي خفيفquot;، وهو الذي قالت عنه النبوءة quot;قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ، حتى يخرج الحق إلى النصرة، وعلى اسمه يكون رجاء الأممquot;؟!!.. هل حقاً جاء المسيح ليقدم لنا وصايا وتشريعات، أم أنه جاء ليقدم لنا ذاته المُحِبَّة، لنكون نحن واحداً فيه، كما هو واحد مع الآب؟!!.. هل كل هذا السمو الفائق يتم بتشريعات؟!!.. أو هل نترك كل هذا السمو المسيحي، ونحول المسيحية إلى تشريعات تمنع وتحرم وتقطع؟!!
بالطبع لا أنتوي أن أعود لأيام الشباب، لأكرس حياتي للوعظ والخدمة الروحية، فلقد كررت منذ فترة طويلة أن أتخصص في محاولة تحسين حياة البشر على الأرض، وأن أترك شئون السماء، لعلاقة الفرد الخاصة بربه، فهي لا تحتاج لوعاظ أو وسطاء، فكل أنواع المعرفة متاحة حالياً لمن يبحث عنها، لكنني اضطررت اضطراراً لكتابة هذه السطور، لأوضح لمن يفهم المسيحية كما أفهمها، أننا لسنا في عداد الضالين أو المفرطين في المسيحية، ولكننا نحمل المسيح المُحِبَ في قلوبنا، وليس في نص مقدس نعبده كما لو وثن، أيضاً أحببت أن أقول لإخواني وأخواتي في الإنسانية من غير المسيحيين، أن المسيحية أعظم وأكثر سمواً من أن تحتاج لقوانين دولة لتحفظها!!
من له أذنان للسمع فليسمع، ومن له قلب قادر على الحب، فليجرب استخدامه عوضاً السوط والسيف!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات