التهليل والهتاف لتركيا الآن في أنحاء عالمنا العربي، بعد غزوة quot;أسطول الحريةquot; المباركة، بقيادة المجاهد الإسلامي رجب طيب أردوغان، أتخيله أشبه بتهليل الغرقى في مستنقع موحل فشلوا في الخروج منه لعقود، وعندما أتى متعاطف من خارج المستنقع ليمد يده لإنقاذهم، سقط معهم في نفس ما يرزحون فيه من حمأة!!
أتخيل لو أن بعض هؤلاء الغرقى في المستنقع يتمتعون بحد أدنى من الوعي، لأصابهم الإحباط وهم يرون المنقذ ينقلب على وجهه معهم إلى القاع الطيني اللزج، فيما البعض الآخر الغائب عن الوعي تماماً من طول المكوث في المستنقع، قد سرهم أن ينضم إليهم في مأساتهم عضو جديد، يرفع صوته معهم شاجباً مندداً بالمستنقع وأحواله، وبهؤلاء الذين يتجاهلون غرقاه!!
تركيا الدولة التي شقت طريقها للحداثة عبر مسيرة علمانية كانت ومازالت حتى الآن مضرب الأمثال، لتكون نموذجاً يعطي الأمل لشعوب قفار الشرق الأوسط، أنها من الممكن أن تبرأ من التخلف، لتقف على قدميها كسائر شعوب الأرض بداية من أمريكا اللاتينية حتى شرق آسيا.. تركيا التي تحتل بموقعها الجغرافي، وبتجربتها الثقافية والسياسية الفريدة، موقع همزة الوصل أو الجسر بين شرق غارق لأذنيه في مستنقعات الجهالة والتخلف والعداوات والأحقاد، وبين العالم الحر والمتقدم.. تركيا التي ترنو عيوننا جميعاً إليها وهي تسعى للالتحاق بالاتحاد الأوروبي، لتضرب في مقتل ما يقال من دعاوى أن الشعوب الإسلامية تحول ثقافتها بينها وبين الحداثة وقيمها، وبين التطور والتقدم والمواصفات التي يتطلبها.. تركيا التي صفقنا لها وهي تواصل بنجاح باهر السير في طريقها الذي وضعها عليه خالد الذكر كمال أتاتورك، بعد أن كسر صدفة التخلف العثمانلي وقيمه ونظمه، ليضع تركيا على بداية طريق الانفتاح على الحضارة الإنسانية.
ليس هذا فقط، بل واعتبرنا أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، هو نموذج مشرف ومستنير، تمنينا أن تحذو حذوه التيارات الإسلامية في دول الشرق الأوسط، فقد توافق مع العلمانية والديموقراطية توافقاً يبدو حتى الآن حقيقياً، كما بدا بريئاً من فيروس العداء للغرب وللآخر، ذلك الفيروس الذي يضرب بعنف أحشاء التيارات الإسلامية في جميع أنحاء العالم الإسلامي.
الآن وبعدما حدث في حادثة quot;أسطول الحريةquot; لنا أن نتساءل، إن كانت تركيا قد جنت على نفسها عندما التفتت جنوباً، لتقوم كما تصورنا بواجبها نحو جيرانها العرب المسلمين.
تركيا بعضويتها في الناتو، وبعلاقاتها القوية بأمريكا وإسرائيل، ثم من الناحية الأخرى بصلاتها التاريخية والدينية وتجاورها الجغرافي مع البلاد العربية، تعد مؤهلة تماماً للعب دور المنقذ الذي يمد يده، لمساعدة غرقى العداء مع العالم الغربي.. الدور المطلوب من تركيا بالتحديد هو أن تلعب دور الجسر، الذي يعبر عليه الغرب إلينا، ونعبر عليه إلى الغرب، وهذا بالتحديد ما كانت تركيا تحاوله حتى ما قبل قبل عدة شهور.. حاولت أن تلعب دور الوسيط بين سوريا وإسرائيل، وتخيلنا أنها قد قطعت في هذا الطريق شوطاً يعتد به.
حين توجهت أخيراً نحو إيران، كان هذا أيضاً ضمن ذلك الدور الإيجابي المرشحة له تركيا أكثر من أي طرف آخر، فعلاوة على الجوار الجغرافي مع إيران، أيضاً رغم اختلاف المذهب بين السنة والشيعة، فهناك رابطة الدين الإسلامي تقرب ما بين الشعبين والقيادات التركية والإيرانية، بهذا يكون لدور الوسيط مقوماته السياسية والثقافية.
وعندما بدأت حماس وتركيا يتقاربان، كان هذا أيضاً مؤشراً إيجابياً، أن تجد حماس طرفاً من العالم الحر تأنس إليه، ليساعدها على تجاوز أزمتها الخانقة، بأن تهذب أيديولوجيتها وخطابها، لتتوافق مع المعايير العالمية، فينفتح لها بذلك طريق نحو العالم الذي يدرجها ضمن المنظمات الإرهابية.. هكذا أيضاً يكون الطريق ممهداً لمصالحة حقيقية وراسخة بين الفلسطينيين، بعد أن تتوحد كل الفصائل الفلسطينية في رؤية مستقبلية تقبل بالسلام وتبحث عنه.
لننظر إلى الصورة التركية الآن بعد غزوة quot;أسطول الحريةquot;.. لقد انضمت تركيا أو كادت إلى صفوف الدول المعادية لإسرائيل، وهذا بالطبع وعلى ضوء ثقافتنا وفي حدود قدرات أشاوسنا العقلية أمر مفرح، يستدعي الهتاف من الأعماق، لمن جاء بتركيا لتسقط بجانبنا في مستنقع العداء الأبدي الممتع!!.. ها قد قدمت تركيا دماء ثمانية أتراك، لترفد بحور الدماء المسفوحة في شرقنا الأوسط، لتبدأ الأقدام التركية في الانزلاق، ليتبدل السؤال الآن، ليكون هل تمضي تركيا قدماً في طريق العداء لإسرائيل، وبالتالي العداء للعالم الغربي الذي تنتمي إسرائيل إليه؟.. بدلاً من أن نتساءل إن كانت تركيا ستنجح في مسعاها، لوصل ما انقطع بيننا وبين العالم المتحضر!!
لم يكن أهالي غزة بالتأكيد يحتاجون إلى مجرد بضع أطنان من المعونات، ولا بضع صناديق صواريخ وذخائر كالتي وجدوها عند تفتيش محتويات السفينة مرمرة، كما لم يكنوا في حاجة لهتافات المجاهدين الأتراك والعرب وهم في قبضة القوات الإسرائيلية قائلين quot;خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعودquot;.. فالمعونات تذهب للغزاويين بكل الطرق، وأولها عن طريق إسرائيل.. وكما يقول المثل الياباني نحن لا نحتاج لمن يعطينا سمكة، لكن لمن يمكننا من اصطياد السمك بأنفسنا.. والسلاح لن تستخدمه حماس إلا ضد أخوانها في فتح وسائر الفصائل الفلسطينية، مادامت تقوم الآن بدور حارس أمن لإسرائيل في غزة.. يحتاج الغزاويون أولاً لإفلات أعناقهم من قبضة حماس الدموية، ثم بعد ذلك حل المشكلة الفلسطينية حلاً نهائياً، يحفظ لهذه الشعب المسكين مقومات حياته وكرامته، بعد عقود من الضياع والمعاناة.
كما لا يحتاج الفلسطينيون للمزيد من الشجب والتنديد بإسرائيل ومن يقفون وراء إسرائيل، ولا يحتاجون للمزيد من فضح ما نسميه quot;ممارسات إسرائيل الإجرامية والوحشيةquot;، فلدينا من هذا ما يكفينا للطم الخدود والنحيب والصياح والهتاف لقرون كاملة، كما لن يفيدهم تنامي العداء في تركيا لإسرائيل، وحرق الجماهير لعلمها وهي تهتف quot;لا إله إلا اللهquot;، فلدينا عشرات الملايين من الكارهين والصارخين، يقومون بذلك الواجب المقدس في مدننا وعواصمنا، بأسباب حقيقية أو مصطنعة.
هل سيستعيد أردوغان توازنه، ويعود بتركيا إلى وضع الوسيط النزيه الشريف، وليس المتظاهر بالوساطة وهو ضالع في كراهية السامية ومعاداة السلام؟!!
أم سيُسقط الشعب التركي هؤلاء الذين قفزوا إلى السلطة وسط تسونامي التأسلم، ليعود العلمانيون الحقيقيون إلى قيادة تركيا، وتعود معهم جدارتها لتكون جسراً بين الشرق الغارق في ظلماته، وبين أنوار الحرية والحداثة في الغرب؟!!
نرجو ألا تكون تركيا قد حرقت مرة وإلى الأبد كل أوراقها، لتعود وتدير لنا ظهرها، لتتخفف من مصائبنا، في محاولة لاستئناف طريقها نحو الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، أو تواصل الانقلاب على وجهها في مستنقعنا، الذي لا نرى أنه في حاجة إلى عضو جديد يضرب في أوحاله!!
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات